الوقف إبداع إسلامي نشر الخير
قد يسبقُ الإنسان بالإنفاقِ والصدقة مَن تفرّغ لقيامِ الليل والعبادة، ليسَ تقليلًا من مكانةِ العابد…
اقرأ المزيدالتاريخ لا يُخلّد الذين يعيشون على هامش الحياة، وإنما يخلّد أصحاب الفضل والعلم والجود، أصحاب المشاريع العظيمة والإنتاجات الكبيرة والفتوحات، إنْ ذُكرتْ سيّدات القصور، وإن ذُكرت النساء في الحكم وأثرهنّ على الدول، فلا بدّ من ذكر زبيدة بنت جعفر، زوجة هارون الرشيد.
زوجها هارون الرشيد، يقول عنه الإمام الذهبي: (أنبلُ الخُلفاء وأحسنُ الملوك، كان ذا حجّ وجهاد، وغزوٍ وشجاعة ورأي، وكان يحبُّ العلماء، كثير الإنفاق والصدقة، يعظّمُ حُرُمات الدين ويبغض الجدال في الكلام)، من عظمة ملكه أنه كان يقول للسحابة: (امض حيثُ شئت فسيأتيني خَراجُك).
اختلف مرّةً مع زوجته زبيدة، فقال لها: (والله لا تباتينَ في ملكي الليلة، وإلا فأنت طالق)، ثم اغتمّ وندم على ما قال، فاستفت الإمام أبو يوسف تلميذ الإمام أبي حنيفة، فقال: (تباتين الليلة في المسجد، فالمساجد ليست في ملكه وإنما هي بيوت الله)، فقضت ليلتها بالطاعة والعبادة.
بـلغـتْ مِـنَ المَـفـاخـر كلَّ فخرٍ وجـاوزتِ الكـلامَ فـلا كـلاما
إذا نــزلتْ مــنـازلُهـا قـريـشٌ نـزلت الأنـف منها والسّناما
تقىً وسـماحـة وخلوص مـجدٍ إذا الأنسابُ أخلصتِ الكراما
في سنة 186هـ خرجت زبيدة مع زوجها الرشيد إلى الحجّ، فقد حُبب إلى هارون الرشيد الحج، فكان يحجّ عامًا ويغزو عامًا، وكان في الحجّ مشقّة على امرأة مترفة مثل زبيدة،
ثم إنها رأت ما يقاسيه الناس منْ مصاعب في الحجّ، ومن أصعب الأمور عليهم كان الحصول على الماء إذا باتوا خارج الحرم، فأهمّها ذلك وراحت تفتش عن وسيلة، فجمعت لذلك الخبراء وأمرت المهندسين بدراسة عاجلة لجرّ المياه إلى مكة المكرمة.
بعد دراسة وتمحيص أشاروا عليها بأن الأمر صعب للغاية: حيث إنّه يحتاج لحفر أقنية بين السفوح وتحت الصخور، لمسافة لا تقل عن عشرة أميال، وقال لها وكيلها: يلزمك لذلك نفقة كثيرة، فأمرته بتنفيذ المشروع على الفور وقالت: (اعمل ولو كلّفت ضربة الفأس دينارًا).
وفعلًا مضى المشروع: ووصلوا إلى منابع الماء في الجبال، فشقّت الصخور ومهدّ الطريق للماء في كل وسهل وجبل حتى وصل إلى مكة، وجاءت زبيدة ورأت الخير ودعاء الناس لها:
يقول الإمام عبد الله محمد بن أسعد اليافعي اليمني (768هـ) عن عين زبيدة: (إن آثارها باقية ومشتملة على عمارة عظيمة عجيبة مما يتنزه برؤيتها، على يمين الذاهب إلى منى من مكة،
ذات بنيان محكم في الجبال تقصر العبارة عن وصف حسنه، وينزل الماء منه إلى موضع تحت الأرض عميق ذي درج كثيرة جدًا، لا يوصل إلى قراره إلاّ بهبوط كالبئر، ولظلمته يفزع بعض الناس إذا نزل فيه وحده نهارًا فضلًا عن الليل).
وفي طريق العودة إلى بغداد: أمرت في كل مرحلة أنْ يعمل مشروع ماء، فأقامت الكثير من البرك والمصانع والآبار والمنازل على طريق بغداد إلى مكة، فخلّد التاريخ ذكرها وراح الشعراء يخلّدون بشعرهم كلّ موضع من مواضع المياه؛ ذاكرين فضل زبيدة في ذلك لعظمة ما قامت به.
يقول الرحّالة ابن جبير: (هذه المصانع والبرك والآثار التي من بغداد إلى مكة هي آثار زبيدة، انتدبت لذلك مدّة حياتها، فأبقت في هذا الطريق منافع ومرافق تعمُّ وفد الله تعالى كل سنة، من لدنْ وفاتها إلى الآن (615 هـ قرابة 400 سنة)، والله كفيل بمجازاتها والرضى عنها).
يقول الشاعر:
كريمة الآباء والأعمام والأم ذات الدين والإسلام
غيث اليتامى وحيا الأيتام مدّ لها في العمر ذو الإنعام
وخصّها بالحجّ كل عامِ حتّى توافى آخر الأيام
سبحان الله كانت تعيش حياة الترف؛ فلمّا رأت هموم الأمة أشغلت بقية حياتها بها، وهنا العظمة أنها غيرت حياتها فانتبهت إلى أن الأمّة بحاجة إلى أن تفعل لها شيئًا، فلم تخلدها الجواهر والموضة وإنما خلدتها مشاريعها في خدمة المسلمين.
حُبب إلى زبيدة القرآن الكريم فصارت تتعاهده صباح مساء، ثم جاءت بـ 100 جارية قام العلماء بتحفيظهنّ القرآن الكريم، وصرن يتلونه حتى صار لقصرها دوي كدوي النحل.
بلغت مكانة راقية في كتابتها الأدبية، فكانت تجيد (فنّ التوقيعات): وهو فنُّ الرد على الرسائل بأسلوب نثري بليغ وبكلمات موجزة، يقول محمد بن مسعدة أحد بلغاء الكتّاب: (قرأت لأم جعفر توقيعات في حواشي الكتب وأسافلها، فوجدتها أجود اختصارًا، وأجمع للمعاني).
كما كانت تستشير العلماء والأدباء، فتراسل كثيرًا العالم الأديب الأصمعي، وتهتم بالفقه فتجلس في قصرها تستمع لمناقشات الفقهاء والعلماء من خلف الستار.
كانت تتذوّق الشعر بل وتنظمه، وكلامها في الشعر من لطيف الكلام، من الشعر النسوي الراقي الرقيق، فصيحة تعرف ما وراء المعاني من إشارات، مثقفة تعرف مواقع العبارات.
كان ابن زبيدة الأمين هو ولي العهد بأمر هارون الرشيد، وكان المأمون ابن رشيد من زوجته الأخرى وليًا للعهد بعده، فلما توفي الرشيد أراد الأمين بعد عامين من حكمه أنْ يعزل أخاه المأمون ويضع أحد أبنائه مكانه، فرفض المأمون ذلك وأعلن الثورة على أخيه، وجهز جيشه بقيادة “الطاهر بن الحسين”، فلما بلغ الأمين ذلك جهز جيشه بقيادة “علي بن ماهان”.
فلما أراد “علي بن ماهان” التحرك بالجيش استدعته زبيدة، وقالت له:
(يا عليّ، إنّ أمير المؤمنين وإنْ كان ولدي، وإليه انتهت شفقتي، فإني على عبد الله -المأمون- منعطفة مشفقة، وإنما ابني ملك نافس أخاه في سلطانه وعابه على ما في يده، والكريم يأكل لحمه ويميته غيره،
فاعرف لعبد الله حقّ ولادته وحقّ أخوته، ولا تجبه بالكلام فإنك لست له بنظير، ولا تقتسره اقتسار العبيد، ولا توهنه بقيد ولا غلّ، ولا تمنع عنه جارية ولا خادمًا، ولا تعنّف عليه في السّير ولا تساوه في المسير، ولا تركب قبله وخذ بركابه، وإنْ شتمك فلا تردّ عليه).
ودارت الحرب بين الأمين والمأمون، وفي النهاية انتصر المأمون، وقُتل الأمين ابن زبيدة، فتفجّرت ينابيع الحزن في قلبها فرثته بشعرها:
أودي بألفين من لم يترك الناسا فامنح فؤادك عن مقتولك الياسا
لما رأيت المنايا قد قصدن له أصبن منه سواد القلب والراسا
فبت متكئا أرعى النجوم له أخال سنته بالليل قرطاسا
والموت كان به والهم قارنه حتى سقاه التي أودى بها الكاسا
فليس من مات مردودا لنا أبدا حتى يرد علينا قبله ناسا
ثم جاءها المأمون معزّيًا معتذرًا، فقال: (يا سُتّاه لا تيأسي علي فإني عوضه لك).
فقالت: (يا أمير المؤمنين كيف لا آسف عليه، كيف لا آسف على ولدٍ خلّف أخًا مثلك).
فبكت وبكى المأمون.
وكان المأمون يحترمها أشدّ الاحترام، وكانت تقول له: (الحمد لله الذي ادّخرك لي بعد أنْ أثكلني ولدي، ما ثكلت ولدًا كنت لي عوضًا منه).
فلما خرجت قال المأمون لأحمد ابن أبي خالد: (ما ظننت أنَّ نساء جُبِلنَ على مثل هذا الصّبر).
توفيت رحمها الله عام 216هـ في بغداد، وكأن الشاعر عناها وهو يقول:
ولو كان النساء كمن فقدنَا لفضّلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال
وأفجع من فقدنا من وجدنا قبيل الفقد مفقود المثال
كانت زبيدة مثالًا للمرأة التي تركت آثارًا في حياتها؛ خلّدت ذكرها بعد موتها.
السيدة زبيدة قريبةُ 9 من الخلفاء: (ابنها: محمد الأمين، زوجها: هارون الرشيد، ابن زوجها: المأمون، ابنا ابن زوجها: الواثق والمتوكل، عمّها: المهدي، جدّها: المنصور، عمّ أبيها: أبو العباس السفاح، وابن عمها: الهادي).
يقول عنها الإمام الذهبي: (السّتُّ المحجّبة، كانت عظيمة الجاه والمال، لها آثار حميدة في طريق الحجّ، وكان في قصرها من الجواري 100 جارية يحفظن كتاب الله ربّ العالمين).
خروجها مع زوجها الرشيد إلى الحجّ فرأت ما يقاسيه الناس منْ مصاعب، سبحان الله كانت تعيش حياة الترف؛ فلمّا رأت هموم الأمة أشغلت بقية حياتها بها، وهنا العظمة أنها غيرت حياتها فانتبهت إلى أن الأمّة بحاجة إلى أن تفعل لها شيئًا، فلم تخلدها الجواهر والموضة وإنما خلدتها مشاريعها في خدمة المسلمين.
قالت له: (يا عليّ، إنّ أمير المؤمنين وإنْ كان ولدي، وإليه انتهت شفقتي، فإني على عبد الله -المأمون- منعطفة مشفقة، وإنما ابني ملك نافس أخاه في سلطانه وعابه على ما في يده، والكريم يأكل لحمه ويميته غيره، فاعرف لعبد الله حقّ ولادته وحقّ أخوته، ولا تجبه بالكلام فإنك لست له بنظير، ولا تقتسره اقتسار العبيد، ولا توهنه بقيد ولا غلّ، ولا تمنع عنه جارية ولا خادمًا، ولا تعنّف عليه في السّير ولا تساوه في المسير، ولا تركب قبله وخذ بركابه، وإنْ شتمك فلا تردّ عليه).
دارت الحرب بين الأمين والمأمون، وفي النهاية انتصر المأمون، وقُتل الأمين ابن زبيدة، فتفجّرت ينابيع الحزن في قلبها فرثته بشعرها:
أودي بألفين من لم يترك الناسا فامنح فؤادك عن مقتولك الياسا
لما رأيت المنايا قد قصدن له أصبن منه سواد القلب والراسا
فبت متكئا أرعى النجوم له أخال سنته بالليل قرطاسا
والموت كان به والهم قارنه حتى سقاه التي أودى بها الكاسا
فليس من مات مردودا لنا أبدا حتى يرد علينا قبله ناسا
وفي الختام: لا تنس مشاركة هذه المقالة مع الأصدقاء.
كما يمكنك الاستفادة والاطلاع على المزيد من المقالات: