أصحمة النجاشي – ملك ابن ملك – الملك الذي لا يظلم عنده أحد
روائع قصص التابعين ومواقفهم العظيمة، تقدم لنا عبر ونماذج نقتدي بها على مدى الزمان، من…
Read moreروائع قصص التابعين، في أخلاقهم وذكائهم وعلمهم وجهادهم، العبر والمعاني والقدوة لشباب هذا الزمان، نرسم هذه الصفحات من روائع قصص التابعين؛ ليكون بين أيدي المربّين وأمام الشباب نماذج وقدوات.
ومن هؤلاء العظماء “الأحنف بن قيس التميمي”، والذي تتلمذ على يد أحد كبار صحابة رسول الله ﷺ، الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكان منْ ألمع التلاميذ لمدرسة عمر، ومن أعمقهم تأثرًا بهذا المعلم العظيم.
في السنة الثالثة قبل الهجرة، ولد لقيس بن معاوية مولود سمّاه: “الضّحاك”، ولكن لأنّ في رجليه اعوجاج سمّي بالأحنف فغلب عليه، أبوه من وسط بني تميم نسباً ومكانة، ولد في مناطق اليمامة غربي نجد، ونشأ يتيماً؛ فقد قتل أبوه وهو ما زال طفلاً لم يمش بعد.
الأحنف بن قيس، والمعروف أيضًا بلقب “أحنف الطائي”، كان أحد أشراف العرب وفرسانها ومن الشخصيات المعروفة في الجاهلية وأوائل الإسلام. هو معروف بحكمته ودهائه وأخلاقه، وله العديد من الصفات المميزة:
هذه الصفات تجعل من الأحنف بن قيس شخصية مرموقة ومحترمة في التاريخ الإسلامي والعربي، ومثالاً على القيادة الحكيمة والشخصية القوية والمؤثرة.
الأحنف بن قيس كان تابعياً، وليس صحابياً. الصحابة هم الذين رأوا النبي محمد صلى الله عليه وسلم وآمنوا به وماتوا على الإسلام. أما التابعون فهم الجيل الذي يلي الصحابة، وهم الذين لقوا الصحابة وتتلمذوا على أيديهم واقتدوا بأفعالهم وأقوالهم.
الأحنف بن قيس كان من أشهر رجالات العرب في الجاهلية وأوائل الإسلام، وهو معروف بحكمته وحلمه ودهائه. وُلد قبل الهجرة وعاصر الإسلام والصحابة، لكنه لم يلتق بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم شخصياً، ولذلك يعتبر من التابعين. وقد لعب دوراً مهماً في الأحداث التي تلت وفاة الرسول، خاصة في الفترة التي تلت وفاة الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وخلال فترة حكم معاوية بن أبي سفيان.
أسلم ولم يخط شاربه بعد، ذلك أنّ داعية رسول الله ﷺ جاء قوم الأحنف وعرض عليهم الإسلام، فتردد القوم وجعل بعضهم ينظر إلى بعض، عندها قال الأحنف:
(يا قوم، ما لي أراكم مترددين؟! تقدمون رجلًا وتؤخّرون رجلًا، والله إنّ هذا الوافد عليكم وافد خير، يدعوكم لمكارم الأخلاق وينهاكم عن سيّء الأخلاق، والله ما سمعنا منه إلا حسنًا، فأجيبوا داعي الهدى ففوزوا بخيره في الدنيا والآخرة).
فلمًا سمع قوم الأحنف كلامه ورأيه أسلموا وأسلم معهم، وقدموا على رسول الله ﷺ، فلما أردوا مقابلته استعجل القوم وبقي الأحنف يرتب الأغراض فلمّا فرغ لحقهم، فقال له رسول الله ﷺ: «إنّ فيك خصلتان يحبّهما الله ورسوله: الحلم والأناة، قال:
يا رسول الله، أهما خصلتان تخلّقت بهما؟ أم خصلتان جبلني الله عليهما؟ فقال رسول الله: بل هما خصلتان جبلك الله عليهما، قال الأحنف: الحمد لله الذي جبلني على خصلتين يحبهما الله ورسوله».
بينما أنا أطوف بالبيت زمن عمر بن الخطاب، إذ لقيني رجل أعرفه فقال: ألا أبشرك؟ أما تذكر يوم بعثني رسول الله ﷺ إلى قومك لأدعوهم إلى الإسلام، فقلت أنت يومئذ ما قلت؟ فإني رجعت إلى النبي ﷺ فأخبرته بمقالتك فقال:
«اللهم اغفر للأحنف»، فكان الأحنف يقول: (ما مِنْ شيء مِنْ عملي أرجى لي يوم القيامة، مِنْ دعوة رسول الله ﷺ).
لما انتشر أمر مسيلمة الكذاب بعد وفاة رسول الله ﷺ، جاءه الأحنف مع عمّه المتشمّس ليسمعا منه، فلمّا خرجا من عند مسيلمة سأله عمه: كيف رأيت مسيلمة؟ فقال الأحنف:
(رأيته مبطلًا يفتري الكذب على الله وعلى الناس)، فقال عمّه ممازحاً: ألا تخشى على نفسك إنْ أخبرته؟ فقال الأحنف: عند ذلك أخالفك عنده، فهل تحلف أنك لم تكذّبه كما فعلت؟ فضحك عمّه وقال: بلى.
كان الأحنف -وهو شابّ صغير- يسمّى: “السيّد”، فقد شهد له الفاروق عمر بن الخطاب أنه سيّد أهل البصرة، ففي خلافته وأثناء فتوحات العراق كان الأحنف مع قومه بنو تميم مشاركاً فيها، فأرسل عمر إلى عتبة بن غزوان رضي الله عنه، يطلب منه أن يرسل إليه 10 من خيرة المجاهدين يستشيرهم، فكان الأحنف أحد هؤلاء.
فلما مثلوا بين يدي عمر: سألهم عن حاجاتهم وحاجات الناس، فأجابه جميعهم أنك أدرى بحاجة الناس، ثم سألوه حاجاتهم إلا الأحنف، فإنه حمد الله وأثنى عليه وقال: (إنّ جند المسلمين الذين حلّوا في مصر: قد نزلوا في الخضرة والنضرة والخصب في منازل الفراعنة،
والذين حلّوا في الشام: قد نزلوا في الرغد والثمار منْ منازل القياصرة، وإنّ الذين حلوا في ديار فارس: نزلوا على ضفاف الأنهار العذبة والجنان منْ منازل الأكاسرة، لكنّ قومنا الذين حلّوا في البصرة:
نزلوا في أرض هشاشة نشّاشة لا يجفّ ترابها ولا ينبت مرعاها، أحد طرفيها بحر أُجاج، وطرفها الآخر فلاة قفر لا زرع فيها، فأزلْ يا أمير المؤمنين ضرّهم وأنعش حياتهم، مُر واليك أنْ يحفر لهم نهرًا يستعذبون منه الماء، ويسقون الأنعام والزرع، فيحسن حالهم وترخص أسعارهم، ويستعينوا بذلك على الجهاد في سبيل الله).
فتعجّب عمر من حكمته والتفت إلى رجال الوفد، وقال: (هلا فعلتم فعل هذا، إنه والله السيّد)، ثم أعطى الجميع جوائزهم، فلما أراد أن يعطي الأحنف قال:
(والله يا أمير المؤمنين، ما قطعنا إليك الفلوات -الصحاري- ولا ضربنا للقائك أكباد الإبل في البكور والعشيات لنيل الجوائز، وما لي حاجة إليك إلّا حاجة قومي التي ذكرت، فإن تقضها تكون قد كفيت ووفيت)، فازداد عمر اعجابًا به، وقال: (إنّ هذا سيّد أهل البصرة).
لما أراد وفد البصرة المغادرة: رأى عمر ثوبًا ناعمًا فسأل عن صاحبه، فأخبروه: الأحنف، فسأله عن ثمنه فقال: 8 دراهم، فقال: هلّا اشتريت ثوبًا بدرهمين، وتركت الباقي لأهلك أو تصدّقت به، ثم قال: (خذوا من أموالكم ما يصلح شأنكم، وضعوا الفضول في مواضعها، تريحوا أنفسكم وتربحوا).
ورأى الفاروق في الأحنف الذكاء والهمة فاستبشر به خيرًا، واستبقاه عنده سنة كاملة ليتعّلم ويتفقّه، وليختبره عن قرب، فعمر كان يحذر في تعامله مع الناس من الذكي الفصيح، فهؤلاء الناس إذا صلحوا ملأوا الدنيا خيرًا وإذا فسدوا أفسدوها، فلمّا أتمَّ الأحنف عامه مع الفاروق قال له:
(يا أحنف، إنّي قد بلوتك واختبرتك، فلم أر إلا خيرًا، وقد رأيت علانيتك حسنة، وإنّي لأرجو أن تكون سريرتك مثل علانيتك).
ثمّ رحل الأحنف إلى البصرة، فكتب عمر إلى قائده أبي موسى الأشعري: (أما بعد، فادنو الأحنف بن قيس منك، وشاوره واسمع منه)، وسار الأحنف مجاهدًا مشرّقًا ومغرّبًا وعلا شأنه بين المسلمين.
شارك الأحنف بن قيس في فتح “تستر” دُرّة بلاد فارس، وفيها وقع “الهرمزان” قائد الفرس العظيم أسيرًا بيد المسلمين، فأرسل في وفد من كبار المجاهدين فيهم الأحنف إلى المدينة المنورة؛ ليحكم في أمره أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وهناك كان اللقاء العجيب في مسجد النبي ﷺ،
ورأى “الهرمزان” عمر الفاروق قاهر الفرس نائمًا متوسّدًا نعليه في المسجد بلا حرس ولا خدم، وكان الحوار العجيب بين الرجلين، الذي انتهى بإسلام الهرمزان.
ثم جلس أمير المؤمنين إلى وفد المجاهدين يسألهم عن أحوال البلاد، وعن سبب نقض الفرس لعهودهم المرة تلو المرة، فقال: لعلّ المسلمين يؤذون أهل الذمة فلهذا ينتقضون بكم؟ قالوا: ما نعلم إلا وفاءً. قال: فكيف هذا؟ فلم يشفه أحد منهم بكلامه، إلا أنَّ الأحنف قال له:
(يا أمير المؤمنين إنك نهيتنا عن الانسياح في البلاد، وإنّ ملك فارس بين أظهرهم، ولا يزالون يقاتلوننا ما دام ملكهم فيهم، ولم يجتمع ملكان متفقان حتى يخرج أحدهما صاحبه، وإنَّ ملكهم هو الذي يبعثهم، ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا بالانسياح، فنسيح في بلادهم ونزيل ملكهم، فهنالك ينقطع رجاء أهل فارس).
فقال عمر: صدقتني والله! فأذن في الانسياح في بلاد الفرس، وبسبب هذا القرار توسّعت الفتوحات حتى وصلت إلى تخوم الهند.
(والله يا أخنف ما تمثّلت “يوم صفين” وتذكّرت انحيازك عنّا، ووقوفك إلى جانب علي بن أبي طالب، إلا كانت حزازة في قلبي إلى أنْ أموت)، فردّ الاحنف ردّا قويًّا شديدًا:
(والله يا معاوية إنّ القلوب التي أبغضناك بها ما تزال بين جوانحنا، وإنّ السيوف التي قاتلناك بها ما فتأتْ في أيدينا، وإنْ تدنو من الحرب فترًا ندنو منها شبرًا، وإنْ تمشي إليها مشيًا نمضي إليها هرولة، والله ما حملتنا إليك رغبة في عطائك أو رهبة في جفائك، وإنما جئناك لرأب الصدع ولمّ الشمل وجمع كلمة المسلمين).
(هذا الذي غضب؛ غضب له 100 ألف من بني تميم لا يدرون فيما غضب، هذا الأحنف بن قيس سيّد بني تميم)، واحد من أفذاذ العرب، ساد قومه بالحلم.
فقال: من قيس بن عاصم؛ رأيته يوماً قاعداً بفناء داره محتبيًا بحمائل سيفه، يحدث قومه، إذ أتي برجل مكتوف وآخر مقتول، فقيل: هذا ابن أخيك قتل ابنك، قال: فوالله ما حلَّ حبوته، ولا قطع كلامه، ثم التفت إلى ابن أخيه، فقال:
(يا ابن أخي، بئسما فعلت، أثمت بربك، وقطعت رحمك، وقتلت ابن عمك، ورميت نفسك بسهمك)، ثم قال لابن له آخر: (قم يا بني إلى ابن عمك، فحل أكتافه، ووارِ أخاك، وسُقْ إلى أمّك مائة من الإبل دية ابنها فإنها غريبة).
قال: بكلمات سمعتهنّ من عمر بن الخطاب حيث قال: (من مزح استخفّ به، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قلّ حياؤه، ومن قلّ حياؤه قلّ ورعه، ومن قلّ ورعه مات قلبه).
فأجابه: من كان فيه أربع خصال ساد قومه غير مدافع: (من كان له دِينٌ يحجزه، وحَسَب يصونه، وعقل يرشده، وحياء يمنعه).
الأحنف نموذج في العلم والتقوى والورع والحلم والذكاء، وتمثلت فيه صفات القيادة، يقول زياد بن أبيه عن الأحنف: (إنّ الأحنف بن قيس بلغ منَ الشّرف والسُّؤدد، ما لا تنفعه الولاية ولا يضرُّه العزل).
قصة الأحنف بن قيس مع القرآن تُظهر احترامه وتعظيمه للقرآن الكريم. يُروى أن الأحنف بن قيس كان جالسًا في مجلس وبيده عصا يتوكأ عليها، وفي ذلك المجلس تُليت آيات من القرآن الكريم تتحدث عن الجنة والنار وأحوال القيامة. عند سماعه للآيات، تأثر الأحنف بن قيس بشدة بكلام الله وأبكته الآيات، فألقى العصا من يده وانكب على البكاء، متأثرًا بما يسمع من آيات الوعيد والوعد.
هذه القصة تعكس مدى تأثر الأحنف وخشيته من الله وتعظيمه للقرآن الكريم. يُشاد بهذه القصة لتوضيح أهمية الخشوع والتأثر بكلام الله، وتُبرز كيف كان السلف الصالح يتعامل مع القرآن الكريم ومدى تأثرهم بآياته.
هذه القصة تُستخدم أيضًا كمثال على الحلم والتقوى التي يمكن أن يكون لها تأثير عميق على النفس البشرية، وتشير إلى كيفية استجابة الأحنف بن قيس بعمق وصدق لتعاليم الإسلام.
وفي الختام: لا تنس مشاركة هذه المقالة مع الأصدقاء.
كما يمكنك الاستفادة والاطلاع على المزيد من المقالات:
مكارم الأخلاق في الإسلام و سيرة الفاروق عمر بن الخطاب
تتلمذ على يد أحد كبار صحابة رسول الله ﷺ، الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكان منْ ألمع التلاميذ لمدرسة عمر، ومن أعمقهم تأثرًا بهذا المعلم العظيم.
في السنة الثالثة قبل الهجرة، ولد لقيس بن معاوية مولود سمّاه: “الضّحاك”، ولكن لأنّ في رجليه اعوجاج سمّي بالأحنف فغلب عليه، أبوه من وسط بني تميم نسبًا ومكانة، ولد في مناطق اليمامة غربي نجد، ونشأ يتيمًا؛ فقد قتل أبوه وهو ما زال طفلًا لم يمش بعد.
أسلم ولم يخط شاربه بعد، ذلك أنّ داعية رسول الله ﷺ جاء قوم الأحنف وعرض عليهم الإسلام، فتردد القوم وجعل بعضهم ينظر إلى بعض، عندها قال الأحنف: (يا قوم، ما لي أراكم مترددين؟! تقدمون رجلًا وتؤخّرون رجلًا، والله إنّ هذا الوافد عليكم وافد خير، يدعوكم لمكارم الأخلاق وينهاكم عن سيّء الأخلاق، والله ما سمعنا منه إلا حسنًا، فأجيبوا داعي الهدى ففوزوا بخيره في الدنيا والآخرة).
يقول الأحنف: بينما أنا أطوف بالبيت زمن عمر بن الخطاب، إذ لقيني رجل أعرفه فقال: ألا أبشرك؟ أما تذكر يوم بعثني رسول الله ﷺ إلى قومك لأدعوهم إلى الإسلام، فقلت أنت يومئذ ما قلت؟ فإني رجعت إلى النبي ﷺ فأخبرته بمقالتك فقال: «اللهم اغفر للأحنف»، فكان الأحنف يقول: (ما مِنْ شيء مِنْ عملي أرجى لي يوم القيامة، مِنْ دعوة رسول الله ﷺ).
قال سيدنا عمر بن الخطاب: (يا أحنف، إنّي قد بلوتك واختبرتك، فلم أر إلا خيرًا، وقد رأيت علانيتك حسنة، وإنّي لأرجو أن تكون سريرتك مثل علانيتك).
قيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت الحلم؟
فقال: من قيس بن عاصم؛ رأيته يوماً قاعداً بفناء داره محتبيًا بحمائل سيفه، يحدث قومه، إذ أتي برجل مكتوف وآخر مقتول، فقيل: هذا ابن أخيك قتل ابنك، قال: فوالله ما حلَّ حبوته، ولا قطع كلامه، ثم التفت إلى ابن أخيه، فقال: (يا ابن أخي، بئسما فعلت، أثمت بربك، وقطعت رحمك، وقتلت ابن عمك، ورميت نفسك بسهمك)، ثم قال لابن له آخر: (قم يا بني إلى ابن عمك، فحل أكتافه، ووارِ أخاك، وسُقْ إلى أمّك مائة من الإبل دية ابنها فإنها غريبة).
السلام عليكم
جزاك الله خيرا ووفقك دوما ونفع بك.