هناك نكتة شهيرة: تتوقع من سيحكم العالم في عام 2200م؟
الجواب: هم العرب، والسبب: أنّ بقية الأمم ستكون قد غادرت الأرض نحو الكواكب الأخرى، فيبقى العرب مع تخلفهم على الأرض وحدهم.
مثل هذه الأقوال: تلخص حالة التشاؤم المتطرفة في ثقافتنا الشعبية عن تخلف العرب، وفقدان الأمل في نهوضهم من جديد، والحقيقة أنّ التاريخ يحدثنا بغير ذلك، فكل أمة سعت نحو النهضة وأخذت بأسبابها لا بدّ أن تنهض أطال الزمان أم قصر.
وأمتنا والحمد لله.. تمتلك القيم الحضارية التي تؤهلها للنهضة، رغم قوة الضربات التي تتلقاها من الداخل والخارج على حدّ سواء.
والتاريخ يقدم لنا البرهان أنّ المسلمين لو أرادوا اقتحام مجال وعلم جديد لا يملكون فيه أي خبرة، ما إن يدخلوا فيه حتى تفوقوا على روّاده، وسنتعلم منه الفرق بين القيادة والريادة من خلال قصة معركة ذات الصواري.
البحرية البيزنطية
كانت العصور الوسطىهي الفترة الذهبية لسيادة وسيطرة الدولة البيزنطية على البحر الأبيض المتوسط بلا منافس، وفي الشمال: امتدت أملاكها إلى شبه جزيرة البلقان وآسيا الوسطى.
من الشرق: كانت تحكم سوريا وفلسطين.
من الجنوب: حكمت مصر وكل شمال إفريقيا، وامتد نفوذها السياسي إلى وسط وجنوب إيطاليا، وسيطرت لفترة قصيرة على الساحل الجنوبي لإسبانيا.
كان لديها بنى تحتية متكاملة في مجال الملاحة: (أسطول ضخم من السفن، قواعد بحرية تحرك منها الجيوش، ويتم فيها صناعة وإصلاح السفن).
ومن أهم دور صناعة السفن كانت: (القسطنطينية، عكا، الإسكندرية، قرطاجة، صقلية)، وبلغت عناية الدولة البيزنطية بالسلاح البحري أقصاها في منتصف القرن السادس الميلادي، بالإضافة إلى امتلاكها العديد من السفن التجارية.
بناء الاسطول البحري الإسلامي
كان الإسلام في بدايات التحول إلى تأسيس الدولة، ولم يكن للمسلمين عهد بركوب البحر والحرب بأساطيله، فلما فتحوا بلاد الشام رأوا التهديد الخطير الذي يشكله الأسطول البيزنطي، فأدركوا أن بناء أسطول إسلامي ضرورة استراتيجية حيوية لدولة الإسلام الناشئة لا يمكن تأجيلها.
أول من اقترح بناء الأسطول الإسلامي
فكان أول من اقترح بناء أسطول إسلامي: العبقري الداهية “معاوية بن أبي سفيان” رضي الله عنهما، والي الشام في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
فألح معاوية على الفاروق بغزو البحر لكن عمر قرر التأني في الموضوع؛ فلم يكن مصدر خوفه الجهل بالبحر فمكة والمدينة كانتا قريبتين من البحر، ولكنه خاف على المسلمين، ولم تصل الفتوحات في عهده إلى اتساع يتطلب الاعتماد على حركة بحرية.
لما تولى الخلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه كتب له معاوية يستأذنه، وكان قد أكمل استعداداته بالاستفادة من المدن التي كانت مراكز لصناعة السفن والتي صارت بيد المسلمين (عكا – الإسكندرية).
مع إلحاح معاوية واستكمال استعداداته وافق عثمان رضي الله عنه أن يغزو المسلمين البحر، ولكنه كتب لمعاوية يشترط عليه فقال: (لا تنتخب الناس ولا تقرع بينهم، خيرهم فمن اختار الغزو طائعًا فاحمله وأعنه).
أول فتح بحري للمسلمين
استعمل معاوية على قيادة الأسطول الإسلامي “عبد الله بن قيس الجاسي”، فانطلق واستطاع “فتح قبرص” سنة (28 هـ)، فتحقق نبوءة رسول الله ﷺ أنّ المسلمين سيركبون البحر وتوفيت “أم حرام بنت ملحان الأنصارية” ودفنت في قبرص وكان رسول الله ﷺ قد بشرها بالشهادة فقال:
«ناس من أمتي يركبون ظهر هذا البحر كالملوك على الأسرّة»، فقالت أم حرام: ادعو الله أن يجعلني منهم، فقال ﷺ: «أنت منهم».
الأمة الإسلامية والريادة
نحن أمة يضع لها نبيها ﷺ الرؤية المستقبلية، ثم لا تتوانى في الاستعدادات والأخذ بالأسباب لتحقيق هذه الرؤية، فتتسابق في الريادة في مجال جديد لم يكن لها به سابق معرفة.
هذا يعلمنا كيف نستطيع أنْ ندخل مجالات جديدة تفوق فيها الغرب ثم نتفوق عليهم، فبيزنطة كانت متفوقة في البحر المتوسط، ومع أول تحرك للمسلمين تفوقوا وانتزعوا “قبرص” من سيطرتهم.
هذا.. ولم يكن عند المسلمين عقدة في التفوق على الآخرين، ولا عقدة الانسلاخ من الهوية للحاق بالغربيين، بل استطاعوا التفوق عليهم ومنافستهم مع المحافظة على هويتهم.
أسباب معركة ذات الصواري
سيطر سيدنا معاوية بن أبي سفيان على شواطئ الشام، وولى سيدنا عثمان “عبد الله بن سعد بن أبي السرح” على مصر ، فغزا ليبيا والنوبة وشمال إفريقيا فأخرجها عن سيطرة البيزنطيين.
عندما رأى البيزنطيون خسائرهم المتوالية في البرّ وخروج أهم المراكز البحرية من أيديهم؛ قرر قسطنطين بن هرقل أن يجمع أسطول بحري رومي ضخم يضرب به المسلمين.
انتبه المسلمون لنقطة ضعفهم في البحر وانتبه لها أعداؤهم، فسابق المسلمون الزمن لتجاوز هذه العقبة فخططوا باقتدار.
فبنوا أسطولاً كانت نواته السفن التي غنموها من فتوحات الشام ومصر، والريادة تطلبت انطلاقة صاروخية بأعراب لا عهد لهم بأساليب حروب البحر ليقفوا أمام أقوى قوة بحرية في زمانهم.
شعر البيزنطيون بتهديد هذه القوة الناشئة، فعمدوا إلى :
محاولة إجهاض القوة البحرية الإسلامية النامية التي ظهرت.
استعادة مدينة الإسكندرية لمكانتها العسكرية والبحرية في صناعة السفن.
مراسلة أهل الإسكندرية للبيزنطيين حتى يعيدوا سيطرتهم عليها.
منع استعدادات المسلمين لغزو القسطنطينية عاصمة بيزنطة.
حرمان المسلمين من الأخشاب اللازمة لصناعة السفن في ساحل الأناضول المزدحم بغاباتها.
كل ما سبق مهّد لقيام معركة ذات الصواري العظيمة الأثر في التاريخ.
سبب تسمية المعركة بذات الصواري
اختلفت الآراء حول سبب التسمية على أقوال:
كثرة عدد الصواري: وهي أعمدة السفن التي تحمل الأشرعة.
المكان الذي دارت قربه: والذي عرف بكثرة الأشجار التي تستخدم أخشابها في صناعة السفن، وهذا يؤكده قول الطبري: (حتى بلغوا ذات الصواري، فلقوا جموع الروم في خمسمائة مركب أو ستمائة)، وكذلك قول ابن الأثير: (وأقام عبد الله بن سعد بذات الصواري).
أحداث معركة ذات الصواري
خرج المسلمون بأسطول قوامه (200) سفينة، يقودهم والي مصر “عبد الله بن سعد بن أبي السرح”، أما الأسطول البيزنطي فكان قوامه (500) سفينة حسب أقل تقدير، ووصل في بعض التقديرات إلى (1000)، يقودهم “قسطنطين الثاني”.
أنزل عبد الله نصف جيشه براً بقيادة “بسر بن أبي أرطأة”، للقيام بواجبات الاستطلاع وقتال البيزنطيين المرابطين على البر؛ لأن المعركة البحرية قريبة من البر وفي النهاية سيتم اللجوء إليه، بالإضافة لمهام الاستطلاع.
ثم قام عبد الله بن سعد خطيبًا بالناس فقال: قد بلغني أن هرقل أقبل إليكم في ألف مركب، فأشيروا عليّ، فلم يجبه أحد، ثم قام الثانية والثالثة، عندها قام رجل من أهل المدينة فقال:
أيها الأمير، إنّ الله عزّ شأنه وجلّ ثناؤه يقول {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]، فقال عبد الله: اركبوا باسم الله.
اقترب الأسطولان من بعضهما وهاجت الريح، فأرسل المسلمون للبيزنطيين:
إن شئتم ننزل إلى الساحل فنقاتل هناك حتى يكتب لأحدنا النصر (المسلمون يفضلون المعركة البرية)، فأبى البيزنطيون إلا البحر (فهم أصحاب الخبرة والتفوق فيه)، ثم اتفقوا على القتال في اليوم التالي، فبات المسلمون يدعون ويبتهلون إلى الله، والنصارى كذلك.
ومع فجر اليوم التالي: اقترب الأسطولان من بعضهما، وبدأ القتال بالسهام، فلما انتهت بدأوا يرمون بعضهم بالحجارة، فلما فرغت بدأ المسلمون يربطون سفنهم بسفن البيزنطيين.
فحولوا البحر لساحة قتال بريّ، وبدأ ضرب السيوف على السفن، وكاد قائد المسلمين عبد الله أن يقع أسيرًا لكنه نجا بالقفز لإحدى سفن المسلمين القريبة.
وأبلى المسلمون بلاء حسناً وصمدوا صمود الأبطال، ثم لاح لهم النصر فبدأ جنود البيزنطيين يفروا ويقفزون إلى البحر، وأصيب الامبراطور قسطنطين، ففر هاربًا يجر ذيول الحسرة والهزيمة، ووصل إلى جزيرة صقلية، فلما سأله أهلها عن أمره قالوا:
خذلت النصرانية وأفنيت رجالها، ثم أخذوه فقتلوه.
نتائج معركة ذات الصواري
إذا أراد المسلمون الدخول في أي مجال كانت لهم الريادة إن أخلصوا نيتهم و أحكموا خطتهم.
أكدت بشكل واضح انتهاء السيطرة البيزنطية على البحر المتوسط وانتهى إطلاق اسم بحر الروم عليه.
انطلق المسلمون بعدها في البحر، ولم تستطع الدولة البيزنطية الانتصار في أي معركة بحرية إلا بعد (75) من معركة ذات الصواري.
كثف المسلمون دراستهم في العلوم البحرية وصناعة السفن، وتلتها علوم الفلك المتصلة بتسييرها في البحار، فاخترعوا البوصلة الفلكية والاسطرلاب.
ختاماً
يا شباب أمتنا: تفوق الغرب علينا في كل العلوم تقريباً ، وهذا لا يمنعنا أن نقتحمها ونتفوق عليهم وبمدة قياسية، كما تفوق المسلمون على البيزنطيين في ذات الصواري في مجال كان لهم الريادة فيه، ونحن اليوم بأمس الحاجة لشباب في كل مجال ينهضوا بالعلم.
انشروا قول الدكتور طارق السويدان:
(القيادة هي القدرة على تحريك الناس نحو الهدف، أما الريادة فهي القيادة في مجال جديد).
وفي الختام: لا تنس مشاركة هذه المقالة مع الأصدقاء.
كما يمكنك الاستفادة والاطلاع على المزيد من المقالات:
اختلفت الآراء حول سبب التسمية على أقوال: • كثرة عدد الصواري: وهي أعمدة السفن التي تحمل الأشرعة. • المكان الذي دارت قربه: والذي عرف بكثرة الأشجار التي تستخدم أخشابها في صناعة السفن.
كم عدد السفن في معركة بذات الصواري؟
عدد سفن المسلمين: 200 سفينة. عدد سفن البيزنطيين: (500) سفينة حسب أقل تقدير، ووصل في بعض التقديرات إلى (1000).
من قائد معركة بذات الصواري؟
قائد المسلمين: عبد الله بن سعد بن أبي السرح. قائد البيزنطيين: قسطنطين الثاني.