الإمام المفسر المؤرخ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، عظيم أجبر ذاكرة التاريخ على المثول أمامه لتلتقط علومه الفريدة وأعماله الخالدة ومصنفاته الباهرة، والتي أصبحت فيما بعد منارًا للعلماء ونبعًا ثريًا لرجال الفكر والمعرفة، وتميّز في علوم التفسير والقراءات والتاريخ وله أعظم مؤلفين: (تفسير الطبري – تاريخ الطبري).
ابن جرير الطبري
عاش ما بين عامي (224 – 310 هـ)في زمن الدولة العباسية، عاصر عددًا كبيرًا من خلفائها: فقد ولد زمن المتوكل، وعاش زمن المنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي والمعتد والمعتضد والمكتفي بالله، ومات رحمه الله في خلافة المقتدر،
كان هذا العصر من العصور الزاهرة: فقد أسست العلوم الشرعية، واستقرت المذاهب الفقهية، فنشط التأليف والتصنيف، وجمعت كتب الصحاح والسنن، وظهرت التآليف في شتى الفنون ، وتميّز هذا العصر بالاستقرار السياسي والحرية والحركة الفكرية.
نسب الطبري
محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري، كنيته أبو جعفر رغم أنه لا ولد له فلم يتزوّج.
ولد محمد في مدينة “آمل” في طبرستان، وهي ولاية كبيرة في بلاد فارس.
نشأة الطبري
كان أبوه مؤسرًا فاهتم بتعليمه مبكّرًا: فحفظ القرآن الكريم وعمره (7) سنين، وأمّ الناس في الصلاة وعمره (8) سنين، وبدأ يكتب الحديث وهو ابن (9) سنين، ثم تاقت نفسه للترحال بعد أنْ حصّل مبادئ العلوم في بلده وسمع من علمائها.
فرحل إلى بلاد “الريّ”ثم اتجه إلى بغداد حاضرة العلم والعلماء متمنياً نفسه لقاء الإمام أحمد بن حنبل؛ ولكن بلغه نبأ وفاته قبل أن يصل إليه، فواصل رحلته للاستفادة من علماء عصره في بغداد والكوفة والبصرة وواسط، أخذ الفقه من العلماء وتميز في التفسير والقراءات.
ثم رحل إلى الشام فاخذ القراءات من الشاميين بالإضافة للفقه والتفسير، ثم رحل إلى بيروت مركز الإمام الأوزاعي، ثم رحل إلى مصر فأخذ الفقه المالكي من كبار تلاميذ الإمام مالك رحمه الله،
تردد بين مصر والشام وبغداد ثم حنّ لموطنه طبرستان فعاد، ولكن لم يطب له المقام فيها فرحل إلى بغداد وعاش فيها بقية عمره.
صفات الطبري الشخصية
كان على جانب عظيم من مكارم الأخلاق جعلته محبوبًا بين الناس، يصف أخلاقه أحد تلاميذه فيقول: (كان أبو جعفر في ظاهره نيّفًا في حسنه من باطنه -ظاهره أقل من باطنه-، حسن العشرة لمجالسيه، متفقدًا لأحوال أصحابه، مهذّبًا في جميع أحواله، جميل الأدب في مأكله وملبسه، منبسطًا مع إخوانه يداعب من حوله أحسن المداعبة).
زهد الطبري
كان الطبري زاهدًا في الدنيا، غير مكترث بمتاعها ومفاتنها، وكان يكتفي بقليل القليل أثناء طلبه للعلم، وبما يقوم به، ويمتنع عن قبول عطايا الملوك والحكام والأمراء، قال عنه الإمام ابن كثير: (وكان من العبادة والزهد والورع والقيام في الحق لا تأخذه في ذلك لومة لائم، وكان من كبار الصالحين).
ذكاء الطبري
وهب الله تعالى الإمام الطبري (ذكاء غير عادي، وقدرة عالية في الحفظ)، ومما يدل على ذلك أنه تعلّم علمًا كاملًا في ليلة واحدة، يقول عن نفسه: (لمّا دخلت مصر لم يبق أحد من أهل العلم إلا لقيني وامتحنني في العلم الذي يتخصص به،
فجاءني يومًا رجل فسألني عن شيء من “العَروض” -بحور الشعر وأوزانها- ولم أكنْ قد نشطت له قبل ذلك، فقلت له: أجيبك غدًا، وطلبت في تلك الليلة من صديق لي كتاب العروض للخليل بن أحمد، فسهرت عليه ليلتي تلك، فأمسيت غير عروضيّ وأصبحت عَروضيًّا).
عفة الطبري
كان يناظر مرّة داود بن علي الظاهري في مسألة، فوقف الكلام على داود، فشق ذلك على أصحابه، فقام رجل منهم، وتكلم بكلمة مَضَّة وموجعة لأبي جعفر، فأعرض عنه، وقام من المجلس، وصنَّف كتابًا من (100) صحيفة في الردّ على داود، ثم بلغه أنّ داود قد مات فقام إلى كتابه وقطّعه.
تواضع الطبري
كان الطبري شديد التواضع لأصحابه وزواره وطلابه، دون أن يتكبر بمكانته، أو يتعالى بعلمه، أو يتعاظم على غيره، فكان يُدعى إلى الدعوة فيمضي إليها، ويُسأل في الوليمة فيجيب إليها، وكان رحمه الله لا يحمل الحقد والضغينة لأحد، وله نفس راضية، يتجاوز عمن أخطأ في حقه، ويعفو عمن أساء إليه
أبي محمد عبد الله بن وهب: أخذ عنه فقه الإمام مالك.
أحمد بن منيع البغوي.
محمد بن حميد الرازي.
أبو همام الوليد بن شجاع.
أبو كريب محمد بن العلاء.
يعقوب بن إبراهيم الدورقي.
أبو سعيد الأشج.
عمرو بن علي.
محمد بن بشار.
تلاميذ الطبري
أحمد بن كامل القاضي.
محمد بن عبد الله الشافعي.
مخلد بن جعفر.
أحمد بن عبد الله بن الحسين.
أحمد بن موسى بن العباس التميمي.
عبد الله بن أحمد الفرغاني.
عبد الواحد بن عمر بن محمد أبو طاهر البغدادي البزاز.
محمد بن أحمد بن عمر أبو بكر الضرير الرملي.
محمد بن محمد بن فيروز.
أقوال العلماء والشيوخ في الطبري
قال الإمام ابن خزيمة: (لا أعلم تحت أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير).
قال الإمام الذهبي: (الإمام الجليل، المفسر أبو جعفر، صاحب التصانيف الباهرة، من كبار أئمة الإسلام المعتمدين. كان ثقة حافظًا صادقًا، رأسًا في التفسير، إمامًا في الفقه والإجماع والاختلاف، عَلاَّمةً في التاريخ وأيام الناس، عارفًا بالقراءات واللغة، وغير ذلك).
قال ياقوت الحموي: (إنّ قومًا من تلاميذ بن جرير أحصوا أيام حياته، منذ أن بلغ الحلم إلى أنْ توفي وهو ابن (86)، ثم قسموا عليها أوراق المؤلفات التي كتبها، فوجدوا أنها (14) ورقة في كل يوم، وهذا شيء لا يتهيأ لمخلوق إلا بحسن عناية الخالق).
قال عنه ابن خلّكان صاحب وفيات الأعلام: العالم المجتهد، عالم العصر صاحب التصانيف البديعة، كان ثقة صادقًا حافظًا، رأسًا في التفسير إمامًا في الفقه والإجماع والاختلاف، علّامة في التاريخ وأيام الناس، عارفًا في القراءات واللغة وغيرها).
قال ابن كامل عن الطبري: (قد قسّم ليله ونهاره في مصلحة نفسه ومصلحة دينه ومصلحة الخلق كما وفقه الله عزّوجل).
صدام الطبري مع الحنابلة
تعرض الطبري لمحنة شديدة في أواخر حياته، فلقد وقع خلاف بين ابن جرير الطبري ورأس الحنابلة في بغداد أبي بكر بن داود أفضت إلى اضطهاد بعض الحنابلة لابن جرير، وتعصب العوامّ على ابن جرير وغالوا في ذلك، حتى منعوا الناس من الاجتماع به.
يُقال عن سبب الخلاف أنه أغفل ذكر الإمام أحمد بن حنبل في كتابه (اختلاف الفقهاء) ، في حين أنه ذكر: أبي حنيفة والشافعي ومالك والأوزاعي وغيرهم، فلما سئل عن سبب ذلك أجاب سائليه: (لم يكن ابن حنبل فقيهًا وإنما كان مُحدِّثًا).
الطبري لم يقلل من شأن الإمام ابن حنبل، بل أعلى من شأنه كثيرا، وتابعه في موقفه من محنة خلق القرآن، وفي كتاب للطبري، عنوانه (صريح السنة) يقول ما نصُّه:
(وأما القول في ألفاظ العباد بالقرآن، فلا أثر (حديث) فيه نعلمه عن صحابي مضى، ولا تابعي قضى، ومن يقوم قوله لدينا مقام قول الأئمة الأولى: أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، رضي الله عنه، ولا قول في ذلك عندنا يجوز أن نقوله غير قوله؛ إذ لم يكن لنا فيه إمام نأتم به سواه، وفيه الكفاية والمقنع، وهو الإمام المتبع، رحمة الله عليه ورضوانه).
بعد هذه المحنة خلا الطبري في داره، وقيل إنّه ألّف كتابه المشهور في الاعتذار إلى الحنابلة، وذكر فيه مذهب ابن حنبل وصوّب اعتقاده وجرّح من ظنوا فيه غير ذلك، وقرأ كتابه على الحنابلة فصالحوه وكفّوا عنه، واستأنف طلابه التردد على مجالسه.
كتب الطبري
أصبح الإمام الطبري بما جمعه موسوعة معرفية، وكان يتميّز بموهبة غير عادية في التصنيف والترتيب، وكتب الله لمؤلفاته القبول والانتشار، فألف في التفسير والتاريخ والفقه والأدب، ومن أعظم ما مؤلفاته:
جامع البيان في تأويل آي القرآن: اشتهر بين الناس باسم (تفسير الطبري)، طبع مرات عديدة وغدا مرجعًا أساسيًا في هذا العلم.
تاريخ الأمم والرسل والملوك: اشتهر باسم (تاريخ الطبري)، وأصبح مرجعًا لا يستغني عنه الدارسون للتاريخ.
تهذيب الآثار: أراد أن يجمع به كل ما يتعلق بحديث النبي ﷺ ويعيد ترتيبه وتصنيفه، لكنه مات قبل أن يتمّه.
اختلاف علماء الأمصار في أحكام شرائع الإسلام.
الخفيف في أحكام شرائع الإسلام: ألفه بناء على طلب الوزير العباس بن الحسن.
أدب النفوس الجيدة والأخلاق الحميدة.
منهج الطبري في التفسير
لخص الأستاذ محمد محمود الحلبي منهج الطبري باختصار فقال:
هو تفسير ذو منهج خاص.
يذكر الآية أو الآيات من القرآن.
ثم يعقبها بذكر أشهر الأقوال التي أُثرت عن الصحابة والتابعين من سلف الأمة في تفسيرها.
ثم يورد بعد ذلك روايات أخرى متفاوتة الدرجة في الثقة والقوة في الآية كلها أو في بعض أجزائها بناءً على خلافٍ في القراءة أو اختلاف في التأويل.
ثم يعقِّب على كل ذلك بالترجيح بين الروايات واختيار أولاها بالتقدمة، وأحقها بالإيثار.
ثم ينتقل إلى آية أخرى فينهج نفس النهج: عارضًا ثم ناقدًا ثم مرجِّحًا.
منهج الطبري في كتابة التاريخ
يعتبر تاريخ الطبري من أهم المصادر التاريخية:
يعدّ أوفى عمل تاريخي عربي جامع.
ابتدأ الكتاب من أول الزمان وبدء الخليقة، وانتهى إلى زمانه سنة (309 هـ).
لم يقتصر على تاريخ الإسلام: بل تعرض لتاريخ الفرس والروم بدقّة تدعو إلى العجب، مع قلّة المصادر حوله في هذا الموضوع.
سار الطبري في مصنفه على منهج المحدثين: وهو منهج غاية في الثقة والأمانة إذ يلتزم ذكر الحوادث المروية بالسند إلى ناقليها، دون أنْ يبدي رأيه في أغلب الأحيان، وكان الطبري يقول:
(فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين، مما يستنكره قارؤه أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهًا من الصحة ولا معنًا في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أوتي من بعض ناقليه إلينا، وإنا إنما أدّينا ذلك على نحو ما أديّ إلينا).
وفاة الطبري
توفي الإمام الطبري: في يوم 26 من شوال سنة (310هـ/ 923م) على الأرجح، وعمره (86)، زمن خلافة المقتدر.
قال الخطيب البغدادي: (اجتمع عليه -حال الجنازة- من لا يحصيهم عددًا إلا الله، وصُلِّي على قبره عدة شهور ليلاً ونهارًا، ورثاه خلق كثير من أهل الدين والأدب).
وفي الختام: لا تنس مشاركة هذه المقالة مع الأصدقاء.
كما يمكنك الاستفادة والاطلاع على المزيد من المقالات
محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري، كنيته أبو جعفر رغم أنه لا ولد له فلم يتزوّج.
ولد محمد في مدينة "آمل" في طبرستان، وهي ولاية كبيرة في بلاد فارس
ما سبب خلاف الطبري مع الحنابلة؟
أغفل ذكر الإمام أحمد بن حنبل في كتابه (اختلاف الفقهاء) ، في حين أنه ذكر: أبي حنيفة والشافعي ومالك والأوزاعي وغيرهم، فلما سئل عن سبب ذلك أجاب سائليه: (لم يكن ابن حنبل فقيهًا وإنما كان مُحدِّثًا).
ما أعظم مؤلفات الطبري؟
1-جامع البيان في تأويل آي القرآن. 2-تاريخ الأمم والرسل والملوك: اشتهر باسم (تاريخ الطبري). 3-تهذيب الآثار. 4-اختلاف علماء الأمصار في أحكام شرائع الإسلام. 5-الخفيف في أحكام شرائع الإسلام. 6-أدب النفوس الجيدة والأخلاق الحميدة.
كيف مات ابن جرير الطبري؟
توفي الإمام الطبري: في يوم 26 من شوال سنة (310هـ/ 923م) على الأرجح، وعمره (86)، زمن خلافة المقتدر.
قال الخطيب البغدادي: (اجتمع عليه -حال الجنازة- من لا يحصيهم عددًا إلا الله، وصُلِّي على قبره عدة شهور ليلاً ونهارًا، ورثاه خلق كثير من أهل الدين والأدب).
أي قرن هجري ولد الإمام محمد بن جرير الطبري؟
عاش ما بين عامي (224 – 310 هـ) في زمن الدولة العباسية، عاصر عددًا كبيرًا من خلفائها: فقد ولد زمن المتوكل، وعاش زمن المنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي والمعتد والمعتضد والمكتفي بالله، ومات رحمه الله في خلافة المقتدر،