قال عنه ابن خلكان في كتابه وفيات الأعيان: “كان هارون الرشيد من أنبل الخلفاء، وأحشم الملوك، ذا حج وجهاد وغزو وشجاعة ورأي”.
الخليفة المجاهد هارون الرشيد، ذلك الرجل الذي حاول أعداء تاريخنا وأذنابهم أن يصوروه بصورة (شارب الخمر الماجن، صاحب الجواري الحسان والليالي الحمراء، العسوف الظلوم)،
مع أنه كان من أعظم خلفاء الدولة العباسية جهادًا وغزوًا واهتمامًا بالعلم والعلماء، وبالرغم من هذا كله أشاعوا عنه الأكاذيب وأنه لا همَّ له سوى الجواري والخمر والسكر، ونسجوا في ذلك القصص الخرافية والحكايات الواهية.
من هو هارون الرشيد ؟
الخليفة العباسي الخامس، ابن الخليفة المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي.
نشأ في كنف والده الخليفة المهدي، فاهتم بتعليمه وتثقيفه، إذ تلقى تعليمه على يد كبار العلماء والأئمة الثقات، وكان لتلقي الرشيد أصول التربية والنشأة على يد أولئك العلماء الأثر الأكبر الذي أسهم في تكوين شخصيته وتكوينه العلمي والثقافي، هذه النشأة جعلت منه عالماً بالأدب وأخبار العرب والفقه والحديث.
كان قد نقش خاتمه: لا إله إلا الله.
وكان يصلي في كل يوم مائة ركعة تطوعاً إلى أن فارق الدنيا، إلا أن تعرض له علة.
حياة هارون الرشيد قبل الخلافة
نشأ الرشيد في بيت مُلك، وأُعدَّ ليتولى المناصب القيادية في الخلافة، وعهد به أبوه الخليفة “المهدي بن جعفر المنصور” إلى من يقوم على أمره تهذيبًا وتعليمًا وتثقيفًا، وحسبك أن يكون من بين أساتذة الأمير الصغير “الكسائي”، و“المفضل الضبي”، وهما مَن هما؟! علمًا ولغة وأدبًا.
روى الحديث عن أبيه وجده، وحدث عن المبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أنس بن مالك.
حتى إذا اشتد عوده واستقام أمره، ألقى به أبوه في ميادين الجهاد، وجعل حوله القادة الأكفاء، يتأسى بهم، ويتعلم من تجاربهم وخبراتهم.
ولاية العهد لهارون الرشيد ومبايعة أخيه الهادي
أرسله والده عام (165 هـ= 781م) على رأس حملة عسكرية ضد الروم، وعاد محملاً بأكاليل النصر، فكوفئ على ذلك بأن اختاره أبوه وليًا ثانيًا للعهد بعد أخيه “موسى الهادي”، وأطلق عليه لقب “الرشيد”.
وكانت الفترة التي سبقت خلافته يحوطه في أثنائها عدد من الشخصيات السياسية والعسكرية، من أمثال “يحيى بن خالد البرمكي”، ”والربيع بن يونس”، ”ويزيد بن مزيد الشيباني” ”والحسن بن قحطبة الطائي”، ”ويزيد بن أسيد السلمي”، وهذه الكوكبة من الأعلام كانت أركان دولته حين آلت إليه الخلافة، ونهضوا معه بدولته حتى بلغت ما بلغت من التألق والازدهار.
بعد وفاة المهدي، صلى عليه ولده الرشيد، وأرسل خاتم الخلافة إلى أخيه الهادي، وهنأه بالخلافة، ولم ينازعه عليها، حتى لا يهدم الخلافة الإسلامية.
غير أن موقف الهادي كان على خلاف المأمول، أراد الهادي عزل الرشيد عن ولاية العهد وجعلها لابنه جعفر من بعده، أصبح الهادي ينتقد تصرفات أخيه الرشيد في مجالسه ويبدي عدم رضاه عنه.
تولي هارون الرشيد الخلافة
بعد وفاة موسى الهادي سنة (170هـ – 786م) بويع للرشيد بالخلافة، وكان عمره (22سنة)، في ذلك اليوم دخلت الدولة العباسية عصراً جديداً شهد الكثير من الإنجازات.
لم تكن الفترة التي قضاها الرشيد في خلافة الدولة العباسية هادئة ناعمة، وإنما كانت مليئة بجلائل الأعمال في داخل الدولة وخارجها، ولم يكن الرشيد بالمنصرف إلى اللهو واللعب، المنشغل عن دولته العظيمة إلى المتع والملذات، وإنما كان يحج سنة ويغزو كذلك سنة.
وازدهرت المنطقة الممتدة من وسط آسيا وحتى المحيط الأطلسي، ولمع نجمها في زمن خلافة الرشيد، حيث عرف باهتمامه بالعلماء والتزامه الديني، فضلاً عن إنجازاته التي أسهمت في نماء المنطقة بأكملها، وازدهرت النشاطات الثقافية والإسلامية، ليطلق على ذلك “العصر الإسلامي الذهبي”.
اهتمام هارون الرشيد بالعلماء والأدباء
حقق هارون الرشيد النهضة العلميّة والأدبيّة في العصر الذي عاشه.
قال عنه الذهبي: (وكان يحب العلماء، ويعظم حرمات الدين، ويبغض الجدال والكلام، ويبكي على نفسه ولهوه وذنوبه لا سيما إذا وعظ).
ويقول الخطيب البغدادي: (وكان يحب الفقه والفقهاء، ويميل إلى العلماء).
كان الخليفة الرشيد يحب العلماء والفقهاء لدرجة أنه كان إذا ذهب للحج يأخذ معه من الفقهاء 100 فقيه مع أبنائهم.
كانت مجالسه تتزين بالعلماء والفقهاء والأطباء والشعراء والموسيقيين، وكان كثيرًا ما يناقش العلماء والأدباء، كذلك كان ينقد الشعر والشعراء.
استدعى إليه أبا معاوية الضرير محمد بن خازم ليسمع منه الحديث، قال أبو معاوية: ما ذكرت عنده في حديث رسول الله إلا قال: صلى الله وسلم على سيدي، وإذا سمع حديثاً فيه موعظة يبكي حتى يبل الثرى، وأكلت عنده يوما ثم قمت لأغسل يدي فصب الماء علي، وأنا لا أراه، ثم قال: يا أبا معاوية، أتدري من يصب عليك؟ قلت: لا، قال: أنا، فدعا له أبو معاوية الضرير، فقال: إنما أردت تعظيم العلم.
أخرج ابن عساكر عن ابن علية قال: أخذ هارون الرشيد زنديقاً فأمر بضرب عنقه، فقال له الزنديق: لم تضرب عنقي؟ قال له: أريح العباد منك. قال فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلها ما فيها حرف نطق به، قال: فأين أنت يا عدو الله من أبى إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك، ينخلانها فيخرجانها حرفاً حرفاً.
كان يذهب إلى الفضيل بن عياض بنفسه ويسمع منه وعظه.
كانت له مجالس مع الكسائي والأصمعي.
عيّن أبا يوسف قاضياً للقضاة، وطلب منه أن يؤلف كتاباً في الخراج والعشور والصدقات والجوالي، فجاء كتاب الخراج على أحسن وجه.
من أشهر الأدباء الذين عاصروا الرشيد وحضروا مجالسه: الشاعر أبو العتاهية، وأبو سعيد الأصمعي.
من علماء الدين الذين عاشوا في عصره: الإمام الشافعي صاحب المذهب الشافعي، والإمام مالك بن أنس صاحب المذهب المالكي في الفقه الذي التقى بالرشيد حين قصد الخليفة منزله بالمدينة المنورة وقرأ عليه الإمام كتاب الموطأ.
على الصعيد العلمي دعم الرشيد عالم الكيمياء المشهور “جابر بن حيان” وأسس وتلامذته منهج التجربة في العلوم.
كان العلماء يبادلونه التقدير، روي عن الفضيل بن عياض أنه قال: (ما من نفس تموت أشد علي موتًا من أمير المؤمنين هارون، ولوددت أن الله زاد من عمري في عمره)، فقال في ذلك أحد أصحاب الفضيل: (فكبر ذلك علينا، فلما مات هارون الرشيد وظهرت الفتن، وكان من ذلك في عهد المأمون عندما حمل الناس على القول بخلق القرآن، قلنا: الشيخ كان أعلم بما تكلم).
هارون الرشيد وأعمال الحج
كان يحج عاماً ويغزو عاماً، ويصطحب معه 100 من الفقهاء وأبنائهم يحجون معه، أما السنة التي يتفرغ فيها للجهاد، كان يُرسل إلى الحج 300 رجل، ويُنفق على حجتهم ويُكسيهم كسوة الحج.
عُني الرشيد ببناء السرادقات وفرشها بالأثاث وزودها بأنواع الطعام والشراب، ونافسته زوجته “زبيدة” في إقامة الأعمال التي تيسر على الحجيج حياتهم ومعيشتهم، فعملت على إيصال الماء إلى مكة من عين تبعد عن مكة بنحو ثلاثين ميلاً، وحددت معالم الطريق بالأميال، ليعرف الحجاج المسافات التي قطعوها، وحفرت على طولها الآبار والعيون.
السياسة في خلافة هارون الرشيد
بدأ الخليفة هارون الرشيد، مهمته السياسية عن طريق تعيين “يحيى بن خالد البرمكي”.
ازدهرت الدولة عند منح يحيى البرمكي هذا المنصب؛ فتحسنت أوضاع الدولة العباسية بشكل كبير جدًا، ولم يسبق أنه حصل في عهد أي خليفة آخر.
كان يحرص على الحصول على الأموال بطريقة شرعية، كما كان يحرص بشكل كبير على المحافظة على العدل بين الشعب، ومنع حصول أي نوع من الظلم بينهم.
اهتم الخليفة هارون الرشيد بإعمار المدن، وتعبيد الطرق، وبناء القصور والأبنية، وبذل كل ما في وسعه من أجل ازدهار تجارة البلاد، وتحديدًا في بغداد.
استطاع الخليفة هارون الرشيد تطوير بغداد، وغيرها من المدن، حيث ازدهرت الدولة العباسية في عهده من شتى الجوانب السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وغيرها.
البرامكة في عَهْد هارون الرشيد
(يا أبَتِ، أنتَ أجلستني في هذا المجلس ببركتك وحسن تدبيرك، وقد قَلدْتُكَ أمر الرَّعية وأخرجته إليك)، هذا التفويض العام الذي أصدره هارون الرشيد ليحيى بن خالد البرمكي، لمّا بويع بالخلافة، فأعطى أباه من الرضاع السلطة المطلقة، في إدارة أمور الخلافة، فبلغ وأبناؤه المكانة الأسمى، حتى وصل بهم الأمر إلى:
عهد إلى البرامكة بتربية أولاد الخليفة هارون الرشيد: الفضل مربياً للأمين، وجعفر مربياً للمأمون، وهذا يعني الولاء المطلق للمؤدب من قبل ولاة العهد، حال تسلمهم الإمارة أو الخلافة.
كانوا يدخلوا قصر الخليفة دون استئذان.
أوغلوا في سفك دماء من خالف حكم العباسيين، وسفكوا دماء أبناء علي بن أبي طالب، يقول العلّامة المؤرخ مصطفى جواد: (إنَّ السبب الحقيقي وراء قضاء هارون الرشيد على البرامكة؛ تدبيرهم لقتل موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، ولم يكن الرشيد مُلحداً حتى لا يندم، ولا بليداً حتى لا ينتبه، ولا شَقيّاً حتى لا يتوب).
قاموا بفرض الضرائب وأخذها بغير وجه حق.
قاموا بتبذير أموال الدولة على حسب غاياتهم وأهوائهم.
كانوا طرفاً في النزاع الذي قام بين الأمين والمأمون، إذ كانوا يدعمون المأمون ضد أخيه الأمين.
نكبة البرامكة
أساء البرامكة التّقدير في أمورٍ جعلت الخليفة هارون الرشيد يَتوجّس منهم.
نهاية البرامكة كانت مأساوية ولم تكن متوقعّة، أما أسبابها ودوافعها الحقيقية فبقيت غامضة حيّرت المؤرخين أمثال: (الطبري، واليعقوبي، وابن كثير).
لكن المؤرخين اتفقوا أن هذه حرّكت النزعات القومية لدى الشعوبييّن (الذين يكرهون العرب والعروبة)، فقاموا بتشويه صورة الخليفة هارون الرشيد ووصفوه بأبشع الأوصاف:منها أنه (حاكم ماجن مستهتر بالدين، لاهمّ له إلا اللهو والمُجون، ومنادمة الشعراء، وشرب الخمر، والليالي الحمراء)، ومن أشهر هذه الكتب كتاب الأغاني للأصفهاني نموذج ومثال.
لكن مدونوا التاريخ المنصفين والعادلين دفعوا عنه كل الشبهات التي شوهت سيرته: وقد وصف بأنه كان تقيّاً عابداً، يَحجُّ عاماً ويَغزو عاماً، يُجالس العلماء، ويَسمع من الفقهاء)، فالتاريخ لا يؤخذ من: (كتب ألف ليلة وليلة، والأصفهاني، وجورجي زيدان)، وإنما يُؤخذ من: (الطبري، وابن كثير، وغيرهما).
بعد عودة الرشيد من الحج أصدر قرارات كانت كفيلة بإنهاء وجود البرامكة على رأس الحكم منها:
قام بقُطع رأس جعفر بن يحيى وصُلب جسده على جسر في بغداد.
مصادرة كل أملاك البرامكة وأبنائهم جميعاً، باستثناء محمد بن يحيى -الذي وجده بريئاً.
وضع الفضل وموسى ابني يحيى في السجن.
تخيير والده من الرضاع يحيى، بين الحبس في داره أو بعيداً، ولكنه اختار السجن مع ولديه.
في النهاية مات يحيى وولديه في السجن أثناء حكم الرشيد.
قال ابن يحيى البرمكي لأبيه وهما في السجن:
(يا أبت، بعد الأمر والنهي والنعمة صرنا إلى هذا الحال، قال: يا بُنيّ، دعوةُ مظلومٍ سَرَت بليل، ونحنُ عنها غافلون، ولم يغفل الله عنها).
لكن للإنصاف نقول:
عند خروج هارون الرشيد الرشيد إلى الحجّ، خرج معه الوزير يحيى بن خالد البرمكي وأولاده في آخر أعمالهم في رئاسة الحكم، وهناك طاف يحيى ببيت الله وتعلّق بأستار الكعبة وجعل يدعوا: (اللهم ذنوبي جمّة عظيمة، لا يحصيها غيرك ولا يعرفها سواك، اللهم إن كنت تعاقبني فاجعل عقوبتي في الدنيا، وإن أحاط ذلك بسمعي وبصري ومالي وولدي ولا تجعل عقوبتي في الآخرة).
وهنا معنى هام: عندما نُقيّم هؤلاء فنحن نحكم على عملهم وأدائهم في الدولة، بعيداً عن تدينهم بينهم وبين الله تعالى.
إنجازات الخليفة هارون الرشيد
وفيما يلي أهم الإنجازات التي استطاع هارون الرشيد، تحقيقها في عصره:
عمل على ازدهار الخلافة من كافة النواحي، وتحديدًا الجانب الاقتصادي، حيث استطاع اختيار أشخاص مناسبين لتولي المهام الاقتصادية في بغداد.
بلغت البلاد ذروتها في العلم، والأدب، والشعر، والعلوم، حيث أصبحت بلاده الملجأ الأول للطلاب، وللباحثين عن العلم، والمعرفة.
أنشأ “بيت الحكمة” الذي وضع فيه عددًا كبيرًا من الكتب، والمؤلفات، كما ساهم بتشجيع العلماء على ترجمة أعمال من مختلف المدن، واللغات، حتى تتوسع دائرتهم المعرفية.
إعادة الأهمية إلى الأسطول الإسلامي التي كان عليها من قبل، حتى يتمكن من السيطرة على الملاحة في البحر المتوسط.
عمل على بناء علاقات جيدة مع العديد من المدن، حتى يحافظ على مصلحة الدولة وعلاقاتها الخارجية مع باقي دول العالم.
نظّم طرق الوصول إلى الحجاز، فأمر ببناء المنازل، وكل ما يحتاجه الحجاج لضمان راحتهم أثناء ذهابهم إلى الحج.
استطاع هارون الرشيد تعليم الناس كيفية التمسك في الدين الإسلامي، وكيفية احترام الدين الإسلامي، واستغلال أفكار الدين الإسلامي، وذلك من أجل تطبيقها على الواقع بما ينفعهم.
تمكن هارون الرشيد من إلزام الروم بدفع الجزية ولفترات طويلة، ولسنوات متعددة.
علاقة هارون الرشيد بالروم والفرنجة
اضطرت دولة الروم أمام ضربات الرشيد المتلاحقة إلى طلب الهدنة والمصالحة، فعقدت “إيريني” ملكة الروم صلحًا مع الرشيد، مقابل دفع الجزية السنوية له في سنة (181هـ= 797م).
ظلت المعاهدة سارية حتى نقضها إمبراطور الروم، الذي خلف إيريني في سنة (186هـ = 802م)، وكتب إلى هارون:
(من نقفور ملك الروم إلى ملك العرب، أما بعد فإن الملكة “إيريني” التي كانت قبلي أقامتك مقام الأخ، فحملت إليك من أموالها، لكن ذاك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها، وافتد نفسك، وإلا فالحرب بيننا وبينك).
فلما قرأ هارون هذه الرسالة ثارت ثائرته، وغضب غضبًا شديدًا، وكتب على ظهر رسالة الإمبراطور:
(من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون أن تسمعه، والسلام).
خرج هارون بنفسه في (187 هـ= 803م)، حتى وصل “هرقلة” وهي مدينة بالقرب من القسطنطينية، واضطر نقفور إلى الصلح والموادعة، وحمل مال الجزية إلى الخليفة كما كانت تفعل “إيريني” من قبل، ولكنه نقض المعاهدة بعد عودة الرشيد، فعاد الرشيد إلى قتاله في عام (188هـ= 804م) وهزمه هزيمة منكرة، وقتل من جيشه أربعين ألفا، وجُرح نقفور نفسه، وقبل الموادعة.
في العام التالي (189هـ=805م) حدث الفداء بين المسلمين والروم، ولم يبق مسلم في الأسر، فابتهج الناس لذلك.
غير أن أهم غزوات الرشيد ضد الروم كانت في سنة ( 190 هـ= 806م)، حين قاد جيشًا ضخماً عدته 135 ألف جندي ضد نقفور الذي هاجم حدود الدولة العباسية، فاستولى المسلمون على حصون كثيرة، كانت قد فقدت من أيام الدولة الأموية، مثل “طوانة” بثغر “المصيصة”، وحاصر “هرقلة” وضربها بالمنجنيق، حتى استسلمت، وعاد نقفور إلى طلب الهدنة، وخاطبه بأمير المؤمنين، ودفع الجزية عن نفسه وقادته وسائر أهل بلده، واتفق على ألا يعمر هرقلة مرة أخرى.
الإنجازات الاقتصادية للخليفة هارون الرشيد
عمل على ازدهار الخلافة من كافة النواحي، وتحديدًا الجانب الاقتصادي، حيث استطاع اختيار أشخاص مناسبين لتولي المهام الاقتصادية في بغداد.
استهل الرشيد عهده بأن قلد “يحيى بن خالد البرمكي” الوزارة، وكان من أكفأ الرجال وأمهرهم، وفوّض إليه أمور دولته، فنهض بأعباء الدولة، وضاعف من ماليتها، وبلغت أموال الخراج الذروة، وكان أعلى ما عرفته الدولة الإسلامية من خراج، وقدره بعض المؤرخين بنحو 400 مليون درهم، وكان يدخل خزينة الدولة بعد أن تقضي جميع الأقاليم الإسلامية حاجتها.
إنشاء أوّل مصنع للورق: في بغداد سنة 795م، وبجانبه سوق الورّاقين الذي يحوي على مئات الحوانيت، التي اهتمّ ببيع أنواع الصّناعات الورقيّة ذات الجودة العالية، التي فاقت جودة أيّ ورق في العالم، وهذا من عظيم إنجازات هارون الرشيد.
الاهتمام بالإصلاحات الدّاخلية: فقام ببناء المساجد والقصور الفخمة، وقد تمّ ولأول مرّة في ذلك العصر إنارة الطّرقات والمساجد بالقناديل.
الاعتناء بالزّراعة: فشقّت الأنهار في عهد الرّشيد وحفرت الينابيع والتّرع والجداول، وبنيت الجسور والقناطر، وقد خصّص ديوانًا للاهتمام بالأمور الزّراعيّة ومتابعتها.
الاهتمام بالتّبادل التّجاري: والعمل على تشجيعه بين الولايات والعمل على تأمين طرق التجارة بين المدن، وقد أنشأ مدينة الواقفة بالقرب من مدينة الرّقة على ضفاف الفرات لتكون مركز اصطياف له.
الجيش في عهد هارون الرشيد
اشتهر هارون الرشيد قبل الخلافة بحروبه وجهاده مع الروم، واستمرت الحروب بينهما بعد توليه الخلافة، لدرجة أنه كان يغزو عاماً ويحج عاماً، حتى إنه اتخذ قلنسوة مكتوبًا عليها: غاز وحاج.
وقام الرشيد بتنظيم الثغور المطلة على بلاد الروم على نحو لم يعرف من قبل، وعمرها بالجند وزاد في تحصيناتها، وعزل الجزيرة وقنسرين عن الثغور، وجعلها منطقة واحدة، وجعل عاصمتها أنطاكية، وأطلق عليها العواصم، لتكون الخط الثاني للثغور الملاصقة للروم، ولأهميتها كان لا يولي عليها إلا كبار القادة أو أقرب الأقربين إليه، مثل “عبد الملك بن صالح” ابن عم أبي جعفر المنصور أو ابنه “المعتصم“.
وعمّر الرشيد بعض مدن الثغور، وأحاط كثيرًا منها بالقلاع والحصون والأسوار والأبواب الحديدية، مثل: قلطية، وسميساط، ومرعش، وكان الروم قد هدموها وأحرقوها فأعاد الرشيد بناءها، وأقام بها حامية كبيرة،
وأنشأ الرشيد مدينة جديدة عرفت باسم “الهارونية” على الثغور.
وأعاد الرشيد إلى الأسطول الإسلامي نشاطه وحيويته، ليواصل ويدعم جهاده مع الروم ويسيطر على الملاحة في البحر المتوسط.
وأقام دارًا لصناعة السفن، وفكّر في ربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط، وعاد المسلمون إلى غزو سواحل بحر الشام ومصر، ففتحوا بعض الجزر واتخذوها قاعدة لهم، مثلما كان الحال من قبل، فأعادوا فتح “رودس” سنة (175هـ= 791م)، وأغاروا على أقريطش “كريت” وقبرص سنة (190هـ)
الحياة الشخصية للخليفة هارون الرشيد
زبيدة زوجة هارون الرشيد
هي زبيدة بنت جعفر، ابن المنصور الخليفة العباسي المشهور، فهي عبّاسية هاشميّة قرشيّة ذات نسب شريف، ولدت سنة 145هـ في الموصل، كان جدّها أبو جعفر المنصور يحبُّها كثيرًا وهو الذي سمّاها “زبيدة”؛ لبياضها ونضارتها.
تجمعها قرابة مع تسعة من الخلفاء العباسيين: ( جدّها: المنصور، عمّ أبيها: أبو العباس السفاح عمّها: المهدي، ، وابن عمها: الهادي زوجها: هارون الرشيد ابنها: محمد الأمين، ، ابن زوجها: المأمون، ابنا ابن زوجها: الواثق والمتوكل،).
زوجها هارون الرشيد، الذي وصفه الإمام الذهبي: (أنبلُ الخُلفاء وأحسنُ الملوك، كان ذا حجّ وجهاد، وغزوٍ وشجاعة ورأي، وكان يحبُّ العلماء، كثير الإنفاق والصدقة، يعظّمُ حُرُمات الدين ويبغض الجدال في الكلام)، من عظمة ملكه أنه كان يقول للسحابة: (امض حيثُ شئت فسيأتيني خَراجُك).
ذات يوم حدث خلاف بين هارون الرشيد وزوجته زبيدة، فقال لها: (والله لا تباتينَ في ملكي الليلة، وإلا فأنت طالق)، ثم اغتمّ وندم على ما قال، فاستفت الإمام أبو يوسف تلميذ الإمام أبي حنيفة، فقال: (تباتين الليلة في المسجد، فالمساجد ليست في ملكه وإنما هي بيوت الله)، فقضت ليلتها بالطاعة والعبادة.
يقول عنها الخطيب البغدادي: كانت معروفة بالخير والإفضال على أهل العلم، وكانت صاحبة بِرّ على الفقراء والمساكين).
عين زبيدة
خرجت زبيدة مع زوجها الرشيد إلى الحجّ سنة (سنة 186هـ)، وكان الحجّ يحوي مشقّة على امرأة تربت على الترف مثل زبيدة، ورأت معاناة الناس وصعوبات الحجّ عليهم، وكان من أصعب الأمور الحصول على الماء إذا باتوا خارج الحرم، فأهمّها ذلك وراحت تفتش عن وسيلة، فجمعت لذلك الخبراء وأمرت المهندسين بدراسة عاجلة لجرّ المياه إلى مكة المكرمة.
فقيل لها إنّه يحتاج لحفر أقنية بين السفوح وتحت الصخور، لمسافة لا تقل عن عشرة أميال، وقال لها وكيلها: يلزمك لذلك نفقة كثيرة، فأمرته بتنفيذ المشروع على الفور وقالت: ( اعمل ولو كلّفت ضربة الفأس دينارًا).
فشقّت الصخور ومهدّ الطريق للماء في كل وسهل وجبل حتى وصل إلى مكة، فدعا الناس بالخير لها.
هارون الرشيد يختبر الامام الشافعي
الإمام محمد بن إدريس الشافعي -رحمه الله- من أهم علماء زمانه، حيث كان من أبرز وأعظم العلماء، وفي حادثة يرويها لنا التاريخ بأنه في عصر هارون الرشيد -رحمه الله- قام بعض الحاقدين على الإمام الشافعي بالافتراء عليه.
وقالوا بأنه كان يُحرض الناس على الخليفة هارون الرشيد؛ فقامت شرطة الخليفة هارون الرشيد بجلبه هو ونفر من الناس، من نجران باليمن إلى بغداد سيراً على الأقدام مكبلين بالأغلال.
وفيما يأتي سرد لما جرى بين الخليفة هارون و الإمام الشافعي:
الرشيد: لقد أخبرني قاضي القضاة بأنك أخذت العلم عن الإمام مالك بن أنس -رحمه الله-.
الشافعي: رحم الله مالكاً، إنه نجم العلماء، وزينة الفقهاء والمحدثين، وما أحد أمَنَّ من مالك.
الرشيد: أخبرني عن علمك بكتاب الله يا ابن إدريس.
الشافعي: عن أي العلوم تسألني يا أمير المؤمنين؟ عن حفظه؟ فقد حفظته بين جنبتيه، وعرفت وقفه وبتداءه وعدده، وعرفت مكيه ومدنيه، وناسخه ومنسوخه، وليله ونهاريه، وما خوطب من العام يراد به الخاص، وما خوطب من الخاص يراد به العام.
الرشيد: والله يا ابن إدريس لقد أثلجت صدري، فكيف علمك بالنجوم؟
الشافعي: إني لأعرف منها البري والبحري، والسهلي والجبلي، والفيلوجة والمصبح، وما يجب معرفته.
الرشيد: الله الله ربي لا أشرك به شيئاً، هل من عظة تعظ بها أمير المؤمنين يا شافعي؟
وهنا قال الشافعي قصيدته المشهورة:
دع الأيام تفعل ما تشاءُ ** وطب نفسا إذا حكم القضاءُ
ولا تجزع لحادثة اللياليِ ** فما لحوادث الدنيا بقاءُ
وكن رجلاً على الأهوال جلداً ** وشيمتك السماحة والوفاءُ
كيف مات هارون الرشيد
في عام (192 هـ= 808م) خرج الرشيد إلى “خرسان” لإخماد بعض الفتن والثورات التي اشتعلت ضد الدولة، فلما بلغ مدينة “طوس” اشتدت به العلّة، وتُوفي في (3 من جمادى الآخر 193هـ= 4 من إبريل 809م) بعد أن قضى في الخلافة أكثر من ثلاث وعشرين سنة، عدت العصر الذهبي للدولة العباسية.
الخليفة العباسي الخامس، ابن الخليفة المهدي محمد بن المنصور أعظم خلفاء الدولة العباسية. كان نقش خاتمه: لا إله إلا الله. وكان يصلي في كل يوم مائة ركعة تطوعا، إلى أن فارق الدنيا، إلا أن تعرض له علة. كان يحج عاماً ويغزو عاماً. عمل على ازدهار الخلافة من كافة النواحي
هل ثبت أن هارون الرشيد كان يشرب الخمر؟
هذا من القصص الملفقة عليه، بعد أن قضى على سيطرة البرامكة على الحكم، إذ تحرّكت النزعات القومية لدى الشعوبييّن (الذين يكرهون العرب والعروبة)، فقاموا بتشويه صورة الخليفة هارون الرشيد ووصفوه بأبشع الأوصاف: منها أنه (حاكم ماجن مستهتر بالدين، لاهمّ له إلا اللهو والمُجون، ومنادمة الشعراء، وشرب الخمر، والليالي الحمراء)، ومن أشهر هذه الكتب كتاب الأغاني للأصفهاني نموذج ومثال. وصفه الإمام الذهبي: (أنبلُ الخُلفاء وأحسنُ الملوك، كان ذا حجّ وجهاد، وغزوٍ وشجاعة ورأي، وكان يحبُّ العلماء، كثير الإنفاق والصدقة، يعظّمُ حُرُمات الدين ويبغض الجدال في الكلام)،
لماذا سمي هارون الرشيد بالرشيد؟
أرسله والده عام (165 هـ= 781م) على رأس حملة عسكرية ضد الروم، وعاد محملاً بأكاليل النصر، فكوفئ على ذلك بأن اختاره أبوه وليًا ثانيًا للعهد بعد أخيه موسى الهادي، وأطلق عليه لقب الرشيد.
صفات هارون الرشيد؟
قال عنه ابن خلكان في كتابه وفيات الأعيان: "كان هارون الرشيد من أنبل الخلفاء، وأحشم الملوك، ذا حج وجهاد وغزو وشجاعة ورأي". الخليفة المجاهد هارون الرشيد، أعظم خلفاء الدولة العباسية جهادًا وغزوًا واهتمامًا بالعلم والعلماء، كان نقش خاتمه: لا إله إلا الله. وكان يصلي في كل يوم مائة ركعة تطوعا، إلى أن فارق الدنيا، إلا أن تعرض له علة كان يحج عاما ويغزو عاما.
كيف مات هارون الرشيد؟
في عام (192 هـ= 808م) خرج الرشيد إلى “خرسان” لإخماد بعض الفتن والثورات التي اشتعلت ضد الدولة، فلما بلغ مدينة “طوس” اشتدت به العلة، وتُوفي في (3 من جمادى الآخر 193هـ= 4 من إبريل 809م) بعد أن قضى في الخلافة أكثر من ثلاث وعشرين سنة، عدت العصر الذهبي للدولة العباسية.