ايوب عليه السلام شعار الصبر
قصصُ الأنبياء فيها الدروسُ والعبر، نتعلمُ منهُم مناهجَ الحياةِ في كلّ الأحوال، في الرخاء وعندَ البلاء، نتعلمُ الصبرَ ونتعلمُ الشكر، أيوب عليهِ السلام شعارٌ للمبتلين، ونموذج للصابرين، وقدوةٌ لنا أجمعين،
اقرأ المزيد(بلغَ رتبةً الاجتهاد، وانتهت إليهِ رئاسةُ المذهب، مع الزُهدِ والورع والأمرِ بالمعروفِ والنهيّ عن المنكر والصلابةُ في الدين، وقَصَدَهُ الطّلبة من الآفاق، وتخرّج به أئمة) الحافظ الذهبيّ.
أُمتنا الإسلاميّة غنيّة بالرجالِ العظام المبدعون والقُدوات في كلّ ميدان، نقفُ لنتعرّف على أحدِ هؤلاءِ القاماتِ، إنهُ قاضي القُضاة وبائع الملوك وسلطانُ العلماء العز بن عبد السلام المُجاهد الفقيه مُجدد قَرنه.
(أبو محمد عزّ الدين) عبدُ العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن حسن بن مُحمد بن مُهذب السلميّ، المغربيّ أصلاً، الدمشقيّ مولداً، ثم المصري داراً ووفاة، والشافعيّ مذهباً، الإمامُ والفقيه والعالِم، مُقاوم الظُلم والطغيان، الذي كانت تخشاهُ السلاطين والمُلوك.
وُلدَ في دمشق سنة (577هـ)، وتوفي في القاهرة سنة (660هـ).
عاشَ العزّ في عصرٍ شابتُه الظروفُ السياسيّة المُضطربة، عصرُ ضعف وانهيارِ الدولة العباسيّة والانشقاقات الداخليّة وتكالبِ الصليبيين والمغول على الأمّة.
في هذهِ الظروف فضّل كثيرون من أهلِ العلم والدين السكوتَ عن الحق واعتزالَ المشهدِ العام، في حين انخرطَ العزّ في قلبِ هذه الأزمات مُقدمًا صورةً مُغايرّة لعالمِ الدين الذي يُجاهدُ في سبيلِ الله الذي لا يخشى أحداً.
واشتهرَ العزّ بمواقفه العظيمة في إحقاقِ الحق وإنكارِ المُنكر، لا سيما مع حكّام عصرهِ، فمن هذه المواقف:
بعد وفاةِ صلاح الدين الأيوبي (589هـ)، اختلفَ خلفاؤهُ من بعدهِ، وقويتَ إماراتُ الصليبيين نتيجةً لذلك، وبلغَ الصراعُ مداه بين حاكمِ دمشق (الصالح إسماعيل بن الكامل) وبينَ أخيه (نجم الدين أيوب) سُلطانِ مصر، حتى إنّ حاكمَ دمشق حالفَ الصليبيين، وأعطاهُم عدةَ قلاعٍ وحصون، وسمحَ لهُم بدخولِ دمشق لشراءِ السلاح والتزوّدِ بالطعام.
كانَ العزّ آنذاكَ إمامَ المسجدِ الأمويّ ومُفتي دمشق، فاستنكرَ ذلكَ، وصعدَ المنبر وخطبَ في الناسِ خُطبةً قويّة: فأفتى بحُرمة بيعَ السلاح للفرنجة، وبحُرمة الصُلحِ معهُم.
وهاجمَ السُلطان، وقالَ في آخر خُطبته: «اللهمّ أبرم أمرًا رشدًا لهذهِ الأمة، يعزّ فيه أهل طاعتك، ويذلّ فيه أهل معصيتك»، ثم نزلَ دونَ الدعاءِ للحاكمِ الصالح، فأمرَ السّلطان بعزلهِ واعتقالهِ ثم أفرجَ عنهُ، وأُلزِمَ العزذ بمُلازمةِ دارهِ، وألا يُفتي.
تلقى العزّ أمرَ العزلِ راضياً مرضيّاً، ولكنّه ضاقَ بالإقامةِ الجبريّة، وتعطيلِ العمل المسؤولِ عنهُ شرعاً، فقررَ مُغادرةَ دمشق.
فاتجهَ إلى مصر عن طريقِ القُدس، لكنَّ اسماعيل استمرّ في مطاردةِ العزّ، وأرادَ مُساومته بالتراجعِ عن رأيهِ والاستسلامِ للسُلطان، فأرسلَ من يداهنُه ويساومه ويعدهُ بالمناصب، بشرطِ الرجوع عما هو عليه، ويتوعدهُ إن استمرَ على ذلك.
فقالَ العزّ للمبعوث : (يا مسكين ما أرضاهُ أن يُقَبِّل يديّ فضلاً أن أُقبـِّل يده، يا قوم أنتُم في وادٍ وأنا في وادٍ، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به). فقال له: (لقد رسم لي إن لم توافق على ما يطلب منك أن أعتقلك)، فقال العز: (افعلوا ما بدا لكم)، فأخذه واعتقله في خيمة بجوار خيمة السلطان.
فكانَ الشيخُ يقرأُ القرآن في خيمته مَحبوساً، والسلطانُ يسمع، فأرادَ إسماعيلُ أن يتبجحَ أمامَ الصليبيين بما فعلَ بالعز، فقال لملوكِ الصليبيين: (تسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟) قالوا: (نعم)، قال:
(هذا أكبرُ قُسُاوسة المسلمين، وقد حبستهُ لإنكارهِ عليَّ تسليمي حُصُون المسلمين، وعزلتِه عن الخطابة بدمشق وعن مناصبهِ، ثم أخرجَته فُجاء إلى القدس، وقد جَدّدتُ حبسه واعتقاله لأجلكم)، فقالت لهُ ملوك الفرنج: (لو كان هذا قِسِّيسَنا لغَسلنا رجليه وشربنا مَرَقَتها).
بقي العزّ في المُعتقل حتى جاءت الجيوشُ المصريّة، فانتصروا وقتلوا عساكرَ الفرنج بالقدس، وانهزمَ أعوانهُم، ونجى العزّ بن عبد السلام فتابعَ سيرهُ إلى الديارِ المصريّة، فأقبلَ عليهِ السّلطان الصالحُ أيوب، وولاهُ خطابةَ مصر وقضاءها.
أراد الصالح أيوب أن يُقوِّيَ جيشَه ويَصطفيَ قُوَّادَه ويَحميَ نفسَه، فاشترى المماليك الأتراك(من مال الدولة)، ودَرَّبهم على الفروسية والقتال، حتى نالوا ثقته، فاتسع نفوذهم حتى صاروا أمراءَ الجيش وقادتَه، وبلغ أحدُهم أن صار نائب السلطان مباشرة.
فلما تولى العز منصب قاضي القضاة، اكتشف الخلل في الإدارة والسلطة، وأن القادة الأمراء لا يزالون في حكم الرق لبيت مال المسلمين، وبالتالي فإن الحكمَ الشرعي عدمُ صحة ولايتهم من جهة، وعدمُ نفوذ تصرفاتهم الخاصة والعامة من جهة أخرى.
فأوقف تصرفاتهم، ولم يصحح لهم بيعاً ولا شراءً ولا نكاحاً، وتعطلت مصالحهم بذلك، فلما بلغهم ذلك عظم الخطب عليهم، واضطرب أمرهم، واستشاطوا غضباً، وثارت ثائرتهم، واجتمعوا به فصمم على حكم الشرع وأنه يجب بيعهم لصالح بيت المال، ثم يتم عتقهم ليصبحوا أحراراً، ثم يتولوا تصريف الأمور.
وقال لهم بكل وضوح وصراحة: (نعقد لكم مجلساً، ويُنادى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل عتقكم بطريق شرعي)، فرفضوا واستكبروا، ورفعوا الأمر إلى السلطان أيوب.
فبعث إليه وراجعه، فلم يرجع، فجرت من السلطان كلمةٌ فيها غلظة على العز، وحاصلها الإنكار على الشيخ في دخوله في هذا الأمر الذي لا يعنيه ولا يتعلق به.
أعلنَ العزّ الانسحاب، وعزلَ نفسهُ عن القضاء، وقررَ الرحيلَ، فحملَ أهلهُ ومتاعهُ على دابة، وركبَ دابة أُخرى، وخرجَ من القاهرة.
ما إن انتشرَ خبرُ خروجِ العزّ بينَ الشعب إلا وأعلنَ الناس اللحاقَ بالعزّ، فلم يصل العزّ خارجَ القاهرة إلا قليلاً حتى لحقهُ غالب المسلمين من العلماء والصلحاء والتّجار، حتى النساء والصبيان، فقالَ قائل للسلطان:
(أدرك ملكك، وإلا ذهب بذهاب الشيخ)!! فركِبَ السلطان بنفسه، ولحقَ بالعز، واسترضاهُ وطيَّبَ قلبه، وطلب منه الرجوعَ والعودةَ إلى القاهرة.
فوافقَ العز على شرطه بأن يتمّ بيع الأمراء بالمناداة عليهم، ورجع الجميع إلى القاهرة.
فقد ذكر السبكيّ في طبقاته: ((أنَّ الشيخ عز الدين طلع إلى السلطان في يوم عيد، فشاهد العسكر مصطفّين بين يديه، والأمراء تقبّل الأرض أمامه، فالْتَفَتَ الشيخ إلى السلطان وناداه: (يا أيوب!! ما حُجّتك عند الله إذا قال لك: ألم أُبَوِّئ لك مُلكَ مصر ثم تبيح الخمور)؟ فقال: (هل جرى ذلك)؟ فقال:
(نعم، الحانة الفلانية تباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات)! فقال: (يا شيخنا هذا من أيام أبي)! فقال الشيخ: (أنت من الذين يقولون: إنّا وجدنا آباءنا على أُمّة وإنّا على آثارهم مقتدون)؟! فأمر السلطان بإقفال الحانة فوراً)).
ثم سأله أحدُ تلامذته: (أما خفتَ السلطان وأنت تخاطبه بهذا)؟! فقال الشيخ: (استحضرتُ هيبة الله تعالى فصار السلطان أمامي كالقطّ).
وراح يعبّئ النفوس، ويشحنها بالإيمان، ويحرّض المؤمنين على القتال، وخرج الجيش من مصر على أكمل استعداد، وبلغوا بيسان في الوسط الشرقي من فلسطين في رمضان 658 هـ.
واستمرّ الشيخ يُذكي روح العزيمة، ويذكّر بنصر الله، وعظيم فضل الجهاد والمجاهدين، ومكانة الشهيد عند الله.
وكانت المعركة الهائلة التي حارب فيها جيش الإسلام تحت صيحات: (الله أكبر… واإسلاماه”) واندحر جيش التتار في عين جالوت، ولولا انتصار المسلمين في هذه المعركة لسقطت أفريقيا أوروبا في يد المغول.
هذا هو العالم العامل العزّ بن عبد السلام الذي حوَّل العلم إلى عمل.
قام بالإفتاء في الشام، وكان يدعى “مفتي الشام”، واستمر بالإفتاء حتى عزله (الملك الأشرف موسى) بسبب الفتنة، حول “تفسير كلام الله تعالى” وبقي العز على تلك الحالة ثلاثة أيام
تكمن عظمة سلطان العلماء بفهمه أنَّ القضية أكبر من قضية علم وحفظ ومتون، بل تجاوزت المسألة إلى قضية إحياء أمة، ووقوفٌ بوجه الباطل، وتصحيحٌ لأخطاء الحكام والقادة، بهذا تحيا الأمة، بأمثال هؤلاء العلماء العاملين، والدعاة المجددين.
هذا الرجل العظيم كان عَلَماً في علوم وفنون شتى، كالتفسير وعلوم القرآن، والحديث والعقائد، والفقه وأصوله، والسيرة النبوية، والنحو والبلاغة، والسلوك والأحوال القلبية.
لم تخر قواه رغم تجاوزه الستين من عمره، ولم يؤثر عليه كبر السن، فأصدر الفتاوى الجسيمة التي تتعلق بالأمراء وبيع الملوك، وغير ذلك من الفتاوى، وبقي العز يفتي في مصر حتى توفي عام(660هـ)، وهو يبلغ من العمر (83عامًا).
عندما بلغ السلطان (بيبرس) وفاته قال: (لم يستقر ملكي إلا الساعة، لأنه لو أمر الناس فيَّ ما أراد لبادروا إلى امتثال أمره)، أي أنه لو قال للناس اخرجوا عليّ لانتزع الملك مني لبادروا لأمره.
رؤية واضحة مع إرادة جبارة مع علمٍ عميق تصنع المعجزات، رحم الله العالم المجدد العز بن عبد السلام سلطان العلماء
وفي الختام: لا تنس مشاركة هذه المقالة مع الأصدقاء.
كما يمكنك الاستفادة والاطلاع على المزيد من المقالات
قصص الصحابة و الأئمة الأربعة و قصص التابعين والمبدعون
العز بن عبد السلام هو (أبو محمد عز الدين) عبدُ العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن حسن بن مُحمد بن مُهذب السلميّ، المغربيّ أصلاً، الدمشقيّ مولداً، ثم المصري داراً ووفاة، والشافعيّ مذهباً، الإمامُ والفقيه والعالِم، مُقاوم الظُلم والطغيان، الذي كانت تخشاهُ السلاطين والمُلوك.
وُلدَ في دمشق سنة (577هـ)، وتوفي في القاهرة سنة (660هـ).
- قام الملك الصالح أيوب بشراء المماليك الأتراك(من مال الدولة)، ودَرَّبهم على الفروسية فاتسع نفوذهم حتى صاروا أمراءَ الجيش وقادتَه، وبلغ أحدُهم أن صار نائب السلطان مباشرة.
- فلما تولى العز منصب قاضي القضاة، اكتشف الخلل في الإدارة والسلطة، وأن القادة الأمراء لا يزالون في حكم الرق لبيت مال المسلمين، وبالتالي فإن الحكمَ الشرعي عدمُ صحة ولايتهم ، فأوقف تصرفاتهم، وأنه يجب بيعهم لصالح بيت المال، ثم يتم عتقهم ليصبحوا أحراراً، ثم يتولوا تصريف الأمور.
لقب العز بن عبد السلام بسلطان العلاماء، لأنه أكّدَ مكانةَ العُلماء، ورفعَ ذِكرهُم في عَصرهِ، وجسّد ذلكَ في مواقفِه، في الإنكار على الحُكّام والسلاطين والأمراء لبعضِ تصرّفاتهِم المُخالفة، وقارعهُم بالحجةِ والبيان فغلبهُم، وكانَ على رأسِ العُلماء في هذا الموقفِ الصلب، مما عرّضه لكثير من المتاعب)
تم نفي العز بن عبد السلام من دمشق، لأن حاكمَ دمشق حالفَ الصليبيين، وأعطاهُم عدةَ قلاعٍ وحصون، وسمحَ لهُم بدخولِ دمشق لشراءِ السلاح والتزوّدِ بالطعام.
كانَ العزّ آنذاكَ إمامَ المسجدِ الأمويّ ومُفتي دمشق، فاستنكرَ ذلكَ، وصعدَ المنبر وخطبَ في الناسِ خُطبةً قويّة: فأفتى بحُرمة بيعَ السلاح للفرنجة، وبحُرمة الصُلحِ معهُم، وهاجمَ السُلطان.
أمرَ السّلطان بعزلهِ واعتقالهِ ثم أفرجَ عنهُ، وأُلزِمَ العزذ بمُلازمةِ دارهِ، وألا يُفتي.
موقف العز بن عبد السلام من معركة عين جالوت، راح يُذْكي روح الإيمان والجهاد في شعب مصر، ويذكّر الولاة بواجبهم تجاه ربهم ودينهم، وتجاه حرمة الأرض المسلمة، وحوَّل العلم إلى عمل.
أراد الملك قطز أن يجمع المال من الشعب ليتمكن من الجهاد، فوافقه جُلّ الحاضرين عندئذ تكلم العز فقال: ( إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم، بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وبشرط أن يؤخذ كل ما لدى السلطان والأمراء من أموال وذهب وجواهر وحُليّ، ويقتصر الجند على سلاحهم ومركوبهم، ويتساووا والعامة)
قال الظاهر بيبرس عندما توفي العز بن عبد السلام، لم يستقر ملكي إلا الساعة، لأنه لو أمر الناس فيَّ ما أراد لبادروا إلى امتثال أمره)، أي أنه لو قال للناس اخرجوا عليّ لانتزع الملك مني لبادروا لأمره.
ولد العالم العز بن عبد السلام في دمشق سنة (577هـ)