الإمام مالك بن أنس فقيه ومحدِّث، وثاني الأئمة الأربعة، وصاحب المذهب المالكي في الفقه الإسلامي..
اشتُهر بعلمه الغزير وقوة حفظه للحديث النبوي وتثبُّته فيه، وكان معروفاً بالصبر والذكاء والهيبة والوقار والأخلاق الحسنة، وقد أثنى عليه كثيرٌ من العلماء منهم الإمام الشافعي بقوله: (إذا ذكر العلماء فمالك النجم، ومالك حجة الله على خلقه).
الأئمة الأعلام سلسلة يعدها ويقدمها الدكتور طارق السويدان.. تتحدث عن نفر من العلماء وهبوا أنفسهم لهذا الدين تعلماً، وتعليماً، وجهاداً، وصدعاً بالحق.. كانوا أئمة هدى قادوا الأمة وسطروا صفحات مضيئة عبر تاريخنا الإسلامي.. دعونا نستمع في هذه الحلقة إلى سيرة الإمام مالك رحمه الله تعالى..
هل يغنينا معرفة سيرة أحد هؤلاء الأئمة عن معرفة الآخرين؟ لا.. فلكل واحد منهم تجربته في الحياة، ماذا يفعل من التزام بمذهب من المذاهب ثم جاءه الحق من غيره؟ في هذه السلسلة يهدف الدكتور طارق السويدان إلى أن يعيد تشكيل العقل المسلم فيرى القدوات كأنه ينظر إليها، فهذا الإمام مالك ينشأ في أسرة علمية أصيلة استفزه أبوه بمسألة جعلته ينطلق في طلب العلم، ووجهته والدته العاقلة بأسلوب لطيف لترك حبه للغناء.
ابتدأ الإمام مالك مسيرته العلمية في حلقة الإمام ربيعة الرأي، في مدينة رسول الله ومسجده الذي كانت تنتشر فيه حلقات العلم، فتأثر بذلك في مذهبه فغدا يرجح عمل أهل المدينة، قال عنه أستاذه ابن هرمز: (ذلك عالم الناس).
كان جاداً في طلب العلم قال فيه الإمام الزهري: (قم.. فأنت من أوعية العلم)، ومن أهم شيوخه: الإمام ربيعة الرأي: أخذ منه أصول فقهه والحديث والأدب وتعلم منه الأناقة، قال عنه الإمام مالك: (ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة بن أبي عبد الرحمن).
أستاذه الثاني الإمام عبد الله بن هرمز: كان أعرجاً وأصمّ ثقيل السماع، شهد له العلماء بالعلم رغم أنه من ذوي الاحتياجات الخاصة، عرف عنه التريث في الإجابة ولا يتردد في قول (لا أدري)، وشيخه الآخر الإمام نافع الديلمي: اختاره الأمير عمر بن عبد العزيز لتعليم أهل مصر. والإمام العالم ابن شهاب الزهري: كان موضع ثقة الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي طلب من الناس الأخذ عنه.
من شيوخه أيضاً الإمام جعفر الصادق: من أئمة أهل البيت تلقى منه الشفافية الإيمانية والأدب، والإمام محمد بن المنكدر: كان معروفاً بالزهد، والبكاء عند رواية الحديث، وخير الأعمال عنده إدخال السرور على قلب مؤمن.
يوصف بالوسامة وشدّة الأناقة محباً للأكل الحسن، ويقول: الزهد في التقوى والدين وليس في اللباس، ويؤكد على طال العلم: ضرورة الأخذ عن الثقات، وعدم الجلوس للفتوى حتى يستشير العديد من علماء عصره ، مجلسه يوصف بأنه مجلس وقار وعلم.
الزهد عنده في الدين لا بالمظهر، وكان له أدب خاص مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يتحرج في القول بالحلال والحرام، ولا يستخف شيء من أمور في العلم ولا يجيب عما لم يقع من الأمور.
وصل علم الإمام مالك أن أصبح معلماً لشيوخه ومنهم الإمام الزهري، والإمام يحيى بن سعيد قاضي المدينة، وكذلك الإمام سفيان بن عيينة أمير المؤمنين في الحديث، شديداً في تجرؤ الناس على الفتيا، كما كان مهاباً عند العلماء والحكام يظهر ذلك في قصته مع الإمام الشافعي، فما الذي رفعه لهذه المكانة؟
الإمام سفيان الثوري أخذته هيبة الإمام مالك، قال الإمام الشافعي عنه: (جعلت مالك حجة بيني وبين الله)، ويقول عبد الرحمن بن مهدي: أئمة الحديث أربعة ومنهم الإمام مالك، القضية التي نعانيها قضية سلوك وأدب نوصله للناس، وإليكم سلسلة من مواقف حلقة الإمام مالك في ذلك..
كان الإمام مالك يقبل أعطيات الخلفاء ويستحلها لذاته ولا يرى حرجاً فيها، وفي ذلك كان يحافظ على هيبة ووقار العلماء ولا يتهافت على الخلفاء ويتزلف لهم، وإنما كان يعظهم وينصح لهم وكانوا يطلبوه لتعليم أبنائهم فيرفض لأنه كان يرى أن العلم يؤتى إليه.
أراد أحدهم إحراجه بالأسئلة أمام الوالي فأجاب بحكمة ولم يتنازل، فأهانه الوالي وضربه فثار أهل المدينة فعزل الخليفة المنصور الوالي، وجعل يسترضي الإمام مالك وجعله مشرفاً على حكام الحجاز، كان عزيزاً وجيها يعرف قدر العلم أجبر الحكام على احترامه وتقديره، وكان يعظهم وينصحهم فلنسمع أقواله لهم..
كان يناقش العلماء بقضايا القفه ومنها: (مناقشته القيمة الليث بن سعد إمام مصر)، ومن هذه المناقشة نتعلم جليل الأدب بين الإمامين، والاحترام، والرقي مع الاختلاف بالرأي، وغيرها الكثير..
كان للإمام مالك مستويين من الجلسات: جلسة ذات مسائل عالية لتلاميذه يناقشهم قضايا العلم، وجلسة عامة يقرأ فيها الحديث ويذكر الأحكام ولا يسمح فيها بالمناقشة، وكان الناس يأتونه في موسم الحجّ من كل مكان.
بنى منهجه على الأخذ بأحكام القرآن الكريم كمصدر أول، ثم السنة النبوية المبينة، ثم قدم أقوال الصحابة الذي قدمه على الإجماع، ثم الأخذ بعمل أهل المدينة، ثم تأني بقية الأدلة.
الّف كتابه الموطأ كان بعد لقائه الخليفة المنصور، وهو أول كتاب مؤلف في الإسلام ثابت النسبة إلى مؤلفه، تناولته الأجيال جيلاً بعد جيل.
دور تلاميذ الأئمة مهم وأساسي في نشر مذاهبهم، ومنهم في المدينة: محمد بن إبراهيم بن دينار، وعبد العزيز بن أبي حازم، وعثمان بن عيسى.
أما في مصر التي هي المركز الرئيسي لمذهب الإمام: فعبد الرحمن بن القاسم، وعبد الله بن وهب، وأشهب بن عبد العزيز، وغيرهم كثير في تونس والشام والأندلس.
من تلاميذه الإمام أسد بن الفرات فقيه وفارس وغازٍ فاتح صقلية تلقى علم الإمام مالك وفقه أبي حنيفة، ثم عاد وناقش الفقه المالكي مع الإمام ابن القاسم، وأخرج كتابه الأسدية.
أما أعظم وأهم كتاب في المذهب المالكي بعد الموطأ فهو (كتاب المدونة الكبرى) لكاتبها الإمام سحنون شيخ أهل العلم في المغرب.
الإمام مالك يعطينا المثل والقدوة في الشخصية: التي جمعت الأناقة والوسامة والتعامل الراقي مع العامة والعلماء والحكام.. وشخصية جمعت مصادر العلم والفقه والأدب، فغدا قدوة لطلاب العلم على مدى الزمان.
الإمام مالك ملأ الأرض علماً وفقهاً..
وأثبت للناس أن الوصول القمم العلمية يكون: بالجد والبذل موصولاً بالإخلاص..
في الختام لا تنسى مشاركة هذه المقاطع مع الأصدقاء..