أمتنا الإسلامية غنية بالرجال العظام،المبدعون والقدوات في كل ميدان، نقف لنتعرّف على أحد هؤلاء القامات، إنه أمير المسلمين، وناصر الدين، الخليفة الراشدي السادس، موحد الأندلس، الأمير مستجاب الدعاء،الذي لو قُدِّر أن يكون في المشرق لتغير التاريخ نحو العزة والقوة والتمكين:
إنه يوسف بن تاشفين (400-500 هـ)
المغرب العربي قبل ظهور المرابطين
كانت قبائل الأمازيغ تقطن بلاد المغرب، دخلت هذه القبائل في دين الله عند الفتح الإسلامي، وبقيت البلاد من ليبيا إلى الأطلسي ولايات تابعة للخلافة الأموية، وشطراً من الخلافة العباسية.
عندما ضعفت الخلافة العباسية، بدأت تنفصل عدة دويلات عن عباءة الخلافة العباسية، ًوكانت قبائل الأمازيغ هي الضحية الكبرى لهذا التمزق الذي أصاب بلادهم، وتفرقوا في دويلات عديدة ظهرت في بلادهم.
هذه الدويلات ليست عندها الإمكانات القوية، فأدى هذا إلى توقف عجلة التعليم، وحتى أصول الإسلام بدأت تختفي بينهم، وعاد كثير منهم إلى العادات والأعراف الجاهلية القديمة، إلى أن قامت حركة المرابطين عام (443 هـ)،(لمن أراد التوسع، ممكن أن يرجع إلى تاريخ الأندلس للدكتور طارق).
ظهور حركة المرابطين
ظهرت هذه الحركة عام (443 هـ) على يد فقيه ورع زاهد اسمه (عبد الله بن ياسين)، وأخذ يصحح للناس أمور دينهم وعقائدهم الفاسدة، لكنه لم يجد فيهم استجابة.
فذهب الى جزيرة عند نهر النيجر، وأنشأ زواية صغيرة للعبادة، وانقطع إليه بعض المريدين، وبدؤوا ينشرون العلم في المناطق المحيطة بهم، عن طريق أخلاقهم السامية، وأدبهم الجم، ودعوتهم السمحى، فبدؤوا في الازدياد يوماً بعد يوم، حتى صاروا عدة آلاف.
كان عبد الله بن ياسين يزرع فيهم حب الجهاد في سبيل الله إلى جانب العلم، فلما ازداد أتباعه قرر أن يقضي على الشرك، لكنه بحاجة إلى المساندة، وحصل عليها من أمير قبيلة (لمتونة الأمازيغية) الأمير(يحيى بن عمر اللمتوني)، وقبيلة لمتونة إحدى بطون قبيلة (صنهاج الكبرى)، وكان الأمير يؤمن بأفكار ابن ياسين، ووضع نفسه تحت راية التوحيد، للقضاء على الشرك ولتوحيد الدول.
نشأة يوسف بن تاشفين وبزوغ فجره
في هذا الجو الإيماني، وعلى ضفاف نهر النيجر، نشأ الشاب (يوسف بن تاشفين اللمتوني).
استمرت الحركة في النمو، إلى أن توفي يحيى بن عمر سنة (447هـ)، فتولى مكانه أخوه (أبو بكر بن عمر)، وسار على نهجه في توحيد البلاد، والقضاء على الشرك، واستعان بابن عمه الأمير يوسف بن تاشفين وجعله قائد جيوشه، وكان عمره (48 عام).
تأسيس دولة المرابطين
استشهد عبد الله بن ياسين سنة (451 هـ)، في إحدى المعارك، وآلت رآسة حركة المرابطين إلى أمير القبيلة أبو بكر بن عمر، وتوحدت القيادة السياسية والدينية على يده، وواصل السير على نهج عبد الله بن ياسين، وفتح العديد من المدن المغربية وأعادها إلى الإسلام الصحيح، لكنَّه اضطرَّ أن يعود ليصلح بين قبيلتي لمتونة ومسوفة اللتين هما عماد حركة المرابطين، وترك قيادة المرابطين لابن عمه يوسف بن تاشفين.
انتقال قيادة المرابطين إلى يوسف بن تاشفين
أعاد يوسف ترتيب الدولة في شهرين فقط، فلما عاد أبو بكر تفاجأ بقدرة يوسف على ترتيب الدولة فتنازل له عن الحكم، لأنه رأى أن يوسف أصلح منه ديناً وعلماً وقيادةً.
كان أول عمل قام به يوسف بعد استلام قيادة الحركة، أن حولها إلى دولة كاملة الأركان، أساسها الجهاد لنشر الدين ومحاربة الشرك والوثنية، فقسم الدولة إلى قطاعات، وقسّم جيوشه البالغة (40 ألف مقاتل) إلى عدة أقسام، وشرع في بناء عاصمة للدولة المرابطية، وكانت مدينة مراكش هي العاصمة، وكان في تفقد دائم للثغور وأحوال المسلمين، لم يهنأ له بال، ولم تغره الدنيا، وبقي مجاهداً لمدة (20 عاماً) دون راحة.
لقب أمير المسلمين
بعد أن حقق مشروعه الكبير بتوحيد المغرب العربي، ونشر الإيمان والعدل والجهاد، أشار عليه بعضهم أن يتخذ لقب خليفة المسلمين، لكنه رفض ذلك، وأصر أن تكون ولايته مدعومة من الخلافة في بغداد، حتى لا تتمزق الخلافة، وأرسل له الخليفة موافقته في إدارته للمغرب العربي، فاتخذ لقب أمير المسلمين وناصر الدين.
يوسف بن تاشفين والاندلس
كانت أوضاع الأندلس مضطربة بعد سقوط الخلافة الأمويةوقيام دولة الطوائف (اثنان وعشرون دولة)، وآلت أوضاع الأندلس إلى السوء، وأصبح لا حول لها ولا قوة، مما شجع النصارى على توجيه الضربات المتتالية للمسلمين.
استمرت حالة التردي في الأندلس حتى استطاع (ألفونسو السادس) الاستيلاء على طليطلة عاصمة الأندلس عام (478هـ) ، ثم واصل غاراته حتى استطاع الاستيلاء على المدن والقرى ما بين وادي الحجارة إلى طلبيرة، ثم بدأ ألفونسو في الضغط على مملكتي بطليوسوإشبيلية.
العبور الأول إلى الاندلس
جاءت الاستغاثات من أهل الأندلس إلى أمير المسلمين، بإنقاذهم من النصارى، فقام بالنداء في أهل المغرب العربي لنصرة المسلمين في الأندلس، و انطلقت كتائب المرابطين تركب البحر متجهةً إلى الأندلس، وحدث أن هاج البحر فأخذ يوسف يدعو الله ويقول : ( اللهم إن كنت تعلم أن جوازي هذا خيرًا وصلاحًا للمسلمين فسهل علي جواز هذا البحر، وإن كان غير ذلك فصعبه علي حتى لا أجوزه) فهدأ البحر، وسكنت الريح وعبروا،ومن وراء هذه القصة سمي يوسف بالأمير مستجاب الدعاء.
لما سمع ألفونسو السادس بعبور يوسف أعلن النفير العام الصليبي في أوروبا، فلبى صليبيو اسبانيا وفرنسا وإيطاليا، واستمد العون من بابا روما، فلما اجتمعت له هذه القوة الكبيرة، اغترَّ بحاله وأرسل رسالة طويلة ليوسف يتوعده فيها، ويصف كثرة جيوشه، فلما وصلت الرسالة ما اهتم بها يوسف، بل أجابه بثلاث كلمات على ظهر الورقة: ” الذي يكون ستراه“، فخاف ألفونسو، لأنه أيقن أن يوسف رجل له عزم، لا تغره الدنيا ولا تغره المظاهر ،وليس كأمراء الأندلس المتخاذلين.
معركة الزلاقة
في يوم الجمعة (الثاني عشر من رجب سنة 479 هـ)، كانت بلاد الأندلس على موعد مع معركة من أعظم معارك التاريخ الإسلامي، المسلمون من الأندلس والمغاربة بقيادة يوسف وعمره في تلك المعركة (80 سنة) والصليبيون من أوروبا بقيادة ألفونسو السادس، فكانت معركة الزلاقة العظيمة : معركة قاسية بمنتهى العنف، ثبت بها كلا الفريقين في قتال لا فرار فيه، (للاستزادة في تاريخ الأندلس للدكتور طارق سويدان)،
وضع ابن تاشفين خطّته المُحكمة التي قامت على أن يتراجع لاستدراج الجيش الصليبي، ثم هاجمه من مؤخرة الجيش، ونفد إلى قلب الجيش الصليبي من الخلف، ودفع بكتيبة تسمى بـ ( الحرس الأسود ) وكانوا شديدي الشراسة من الأمازيغ الأبطال المؤمنين الموحدين لله، فاستطاعت هذه الكتيبة البطلة أن تقضي على ما تبقى من مقاومة لدى الصليبيين، وانتهت معركة الزلاقة بنصر عظيم من الله تعالى، ثم بفضل القيادة الحكيمة للبطل العجوز العظيم يوسف بن تاشفين.
لطيفة لبث روح التفاؤل
نحن اليوم تمزقنا كما تمزقت الأندلس، لكننا نستطيع أن ننتصر كما انتصر أهل الأندلس، فالحذر الحذر من الاستسلام والتخاذل، فالأندلس كانت في واقع أسوأ من واقعنا اليوم عدد دولنا العربية في الوطن العربي، هي عدد دول الطوائف في الأندلس لوحدها (اثنان وعشرون دولة).
ما بعد معركة الزلاقة
بعد هذا النصر العظيم ، كان مقرراً أن يتحرك الجيش لاستعادة طليطلة، التي خرج لأجلها، لكن جاء الخبر المفجع، وقطع سعادة يوسف، جاءه خبر وفاة ولده الأكبر وولي عهده الأمير أبو بكر وقداستخلفه على بلاد المغرب، فبقيت المغرب الآن بلا حاكم، فاضطر يوسف أن يعود إلى بلاد المغرب، ليضبط البلاد حتى لا تضطرب، وترك في الأندلس حامية من المرابطين فيها حوالي ثلاثة آلاف مقاتل تحت قيادة ملك اشبيلية المعتمد بن عباد.
مبايعة الاندلس لدولة المرابطين
بعد أن عاد يوسف إلى المغرب ورتب الأمور، لم يكد يجلس في المغرب إلا عدة شهور، حتى جاءته رسائل الاستغاثة من أهل شرق الأندلس، المدن الشرقية لإسبانيا اليوم ( فالنسيا و مرسيا ومايورقا وغيرها )، وقعت الآن تحت تهديد ألفونسو والجيش الصليبي، فأرسل يوسف إلى ملوك الطوائف لنجدة إخوانهم، لكنهم تخاذلوا،
فتحرك إمام عظيم من أئمة الأندلس الإمام الباجي ومجموعة من كبار علماء الأندلس وأصدروا فتوى عظيمةً جدًا، بإلغاء حكم ملوك الطوائف، وقام كل مسلمي الأندلس ويمثلهم العلماء ببيعة دولة المرابطين، وأرسلوا وفداً على رأسهم الإمام الباجي إلى يوسف بن تاشفين فبايعوه، وأخبروه أن الإسلام في خطر في ظل وجود هؤلاء الحكام الخونة.
العبور الثاني إلى الاندلس
استجاب يوسف لواجبه الشرعي، فحرك جيوشه نحو الأندلس (في شهر ربيع الأول من عام 481هـ)، وأرسل إلى ملوك الطوائف يطلب منهم الانضمام إليه، هو لا يريد أن يعزلهم عن حكمهم، ولكن يريد أن يوحدهم تحت راية التوحيد، فأجابه بعضهم، وتخاذل البعض، فقام بالهجوم على من خذل النداء وأزاله عن ملكه.
ثم قامت معضلة أخرى أن ملوك الطوائف الذين قبلوا الانضمام إليه، اختلفوا فيما بينهم، وكثرت شكاياتهم على بعض، فأصبح يوسف مشغولاً بمشكلاتهم، بدل أن يشغل بالجهاد، بل وصلته أخبار مؤكدة، مفادها: أن بعض هؤلاء الأمراء أصبح يتعاون سراً مع ألفونسو، من أجل إفشال حملة يوسف، فغضب يوسف من ضعف الوازع الديني لهؤلاء الأمراء، بدل أن يغاروا على المسلمين كانوا مشغولين بسلطتهم، فقرر العودة إلى بلاد المغرب، وفي نيته أمر عظيم لا بد من فعله.
توحيد الاندلس
في عام (482هـ) عاد يوسف إلى المغرب، وقد عرف حقيقة الأوضاع في الأندلس، وخيانة الحكام لشعوبهم،
فقرر يوسف القيام بعمل يعتبر من أعظم أعماله على الإطلاق، إسقاط دولة ملوك الطوائف الهزيلة، وتوحيد الأندلس تحت رايةٍ واحدةٍ قوية.
دوافع يوسف بن تاشفين لإسقاط دولة الملوك
1.الحفاظ على دولة الإسلام في الأندلس، وإنقاذها من الضياع.
2.الحفاظ على دولة المرابطين في المغرب، إذا سقطت الأندلس ستتجه أطماع الصليبيين نحو المغرب.
وقبل أن يقدم على هذه الخطوة استفتى علماء زمانه، في المغرب والأندلس وحتى علماء المشرق فأرسل للغزالي والطرطوشي في بغداد، لا يريد أن يتصرف إلا بحكم شرعي خوفاً من الله تعالى، وجاءت الفتاوى كلها بوجوب العمل على إزالة هذه الدويلات.
في بداية عام (483هـ) اتجه يوسف وكان يبلغ من العمر (83 عام) نحو الأندلس، وأزال دولة ملوك الطوائف الخائنة.
وهكذا أصبحت دول المغرب مع الأندلس تحت راية واحدة، لها أمير واحد، أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، ورغم ذلك بقي يوسف بن تاشفين على زهده بالدنيا لأنه لا يريدها ولا يأمن لها، هو ما خرج من الزاوية على ضفاف نهر النيجر يريد الجاه والمال ؟ كان كل همه أن يلقى الله وهو عنه راضٍ.
وفاة يوسف بن تاشفين
بعد قرنٍ كاملٍ من الزمان، في واحد محرم عام (500 هـ)، رحل بطلنا العظيم، بعد أن أوقف المد النصراني في الأندلس، وبعد أن نشر الدين والعدل وعاش حياةً لم يكن للدنيا فيها نصيب.
ترجل الفارس الشجاع موحِّد الأمة بعد أن أتم عمله الذي عاش وجاهد لأجله : وحَّد المغرب والأندلس تحت راية واحدة، أعاد الإسلام الصحيح إلى ربوع المغرب العربي، أزال الظلم وأزال الملوك الطواغيت المتسلطين على رقاب العباد، صدَّ الصليبيين عن مسلمي الأندلس، أوقف حرب الاسترداد الاسبانية، ورفع شأن المسلمين في المغرب العربي، في الوقت الذي كانت أمة الإسلام في المشرق تعاني الضعف من التفرق، وقد سقط بيت المقدس بأيدي الصليبيين.
همم تناطح القمم
لو قُدِّر أن يكون يوسف في المشرق لتغير التاريخ كله، وتغيرت كل أمور المسلمين، وما ذاك إلا لما يحمله هذا الرجل من مشروع كامل وقوي من وحدة المسلمين وإقامة الدولة الإسلامية على أساس الكتاب والسنة.
(100 عام) لم يحد عن هدفه قيد أنملة، فاستطاع تحقيقه في نهاية عمره، صدق الله فصدقه الله، رحمه الله تعالى.
هدف واضح، وإرادة جبارة، وإصرار، هذه بعض معاني الإبداع والعظمة.
وفي الختام: لا تنس مشاركة هذه المقالة مع الأصدقاء.
كما يمكنك الاستفادة والاطلاع على المزيد من المقالات