في عالمٍ يعج بالتقدم التكنولوجي والابتكارات المالية، تبدو الأمور المادية والمالية أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى، فالأموال تَغمرُ حياتنا اليومية وتُمثِّلُ قوةً تُحرِّكُ العالم، وتأثيرها يمسُّ حياتنا الشخصية والاجتماعية، هنا يبرز موضوع الربا كواحدٍ من أعمق المسائل الاقتصادية تأثيرًا على الأفراد والمجتمعات.
ما يجعل هذا الموضوع مثيرًا للاهتمام هو الجدل الذي كان ولا يزال يُثار حوله، فبالرغم من أضراره المالية والاقتصادية والنفسية والاجتماعية والأخلاقية الواضحة والتي جعلته في قائمة المحرمات الشرعية، واستحقّ مرتكبوها حرب الله ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} [سورة البقرة]، بالرغم من ذلك، يسعى بعض الذين يرون فيه فرصةً للربح السريع وتحقيق المكاسب المالية الشخصية الأنانية طمس هذه الحقيقة وتزييفها والالتفاف عليها.
أثر الربا على الأوضاع المالية للأفراد
ينتج الربا عن تراكم الديون الشخصية وزيادة الضغط المالي، مما يعقد الوضع المالي للأفراد ويصعِّب تحقيق الاستقرار المالي، تتسبب التعاملات المالية ذات الفوائد المرتفعة في وقوع الفرد في دوامة من الديون والتكاليف الإضافية، مما يؤثر على القدرة على الاستثمار والتوفير ويحد من حرية الأفراد في اتخاذ القرارات المالية الصحيحة.
زيادة الديون الشخصية
تتجلى آثار الربا في زيادة الديون الشخصية على عدة اشكال:
زيادة تكلفة الاقتراض: يعتبر الربا عبئاً ماليًا إضافيًا على المديونية الشخصية، يزيد سعر الفائدة المفروضة على القروض وبطاقات الائتمان تكلفة الاقتراض، مما يعني أن الأفراد سيدفعون مبالغ أكبر كفوائد مالية على المبالغ المستدانة.
دوامة الديون: قد يؤدي دفع فوائد الربا إلى تراكم الديون بشكل مستمر، عندما يصبح الشخص مديونًا ويعجز عن سداد الديون بسرعة، فإن الفوائد المتراكمة تزيد من حجم الديون بشكل متسارع، مما يصعب عليه التخلص من الديون وقد يدخل في حلقة مفرغة تعيق النمو المالي الشخصي.
الضغط النفسي والعواقب النفسية
إنَّ زيادة الديون الشخصية والتزامات الربا يتسبب في ضغط نفسي كبير على الأفراد، يشعرون بالقلق والتوتر المستمر بسبب حجم الديون والضغوط المالية المتزايدة، يفقد الفرد استقراره النفسي وقد يصل به الحال إلى مرحلة الاكتئاب وفقدان الأمل بالحياة، وخاصة في ظل هذه الظروف الاقتصادية الصعبة والأزمات التي نعيشها في عالمنا اليوم، فيقع البعض في عالم الجريمة والمخدرات ويذهب البعض الآخر إلى الانتحار، والقصص في ذلك لا يتسع المجال لذكرها.
فالربا ينبت في النفس الإنسانية الجشع، كما ينبت الحرص والبخل وهما: مرضان ما لزما نفساً إلا أفسدا صاحبها، ومع الجشع والبخل تجد الجبن والكسل، فالمرابي جبان يكره الإقدام فإن الانتظار هو صنعة المرابي فهو يعطي ماله لمن يستثمره، ثم يجلس ينتظر إنتاجه لينال حظاً معلوماً بدل انتظاره، قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة:275].
إنَّ تأثير الربا على الاستثمار والتوفير هو موضوع مهم يتعلق بالأنظمة المالية والاقتصادية، ويشير مصطلح “الربا” إلى فوائد أو أرباح غير مشروعة أو مرتفعة جدًا تحصل عليها من القروض أو الاستثمارات.
صعوبة تحقيق الاستقرار المالي
الربا يؤدي إلى زيادة الاستهلاك وتخفيض معدلات التوفير، حيث يصبح الاقتراض أكثر جاذبية بسبب الفوائد المرتفعة، وبالتالي ينخفض الحافز لتوفير الأموال، وقد يتأثر الأشخاص ذوو الدخل الثابت بشكل خاص بسبب الربا، حيث يتم توجيه الفوائد بشكل أساسي للمقترضين الذين يمكنهم دفعها، بينما يعاني أصحاب الدخل الثابت من قيمة النقود التي تتراكم على حساباتهم بفعل فوائد الودائع المصرفية المنخفضة.
تأثير الربا على الاستثمار البنيوي
يتردَّى الاستثمار بسبب تكاليف الاقتراض المرتفعة، حيث يزيد تكلفة رأس المال ويقلل من العوائد المتوقعة للمشاريع الاستثمارية، ويمكن أن يؤدي الربا إلى تفضيل الاستثمار في القطاعات غير الإنتاجية، مثل القروض الاستهلاكية والمضاربة المالية، على حساب الاستثمار في القطاعات الحقيقية والإنتاجية التي تسهم في تنمية الاقتصاد.
إنَّ الربا يولد في الإنسان العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمـع، ويدعو إلي تفكيك الروابط الإنسانية والاجتماعية بين طبقات النـاس، ويقضي علي كل مظاهر الشفقة والحنان والتعاون والإحسان في نفوس البشر، بل إنه ليزرع في القلب الحسد والبغـضاء، ويـدمر قواعـد المحبة والإخاء.
وخير شاهد ما حصل في فلسطين الجريح، حيث بيعت العقارات، واستولت عليها الشرذمة القليلة، وكان سببها تعاطي الربا، وكم أذل الربا شعوباً ودولاً كانت لها العزة ووقعت فـي الذل ونير الاستعمار؟
تأثير الربا على العلاقات الأسرية
من المقطوع به أن الشخص الذي لا تسكن قلبه الشفقة والرحمة، ولا يعرف معنى للأخوة الإنسانية، سوف يعدم كل احترام أو عطف من أبناء مجتمعه، وتكون النظرة إليه نظرة ازدراء واحتقار، ويكفي المرابي مقتا وهواناً أنه عدو لمجتمعه ولأبناء وطنه، بل إنه عدو للإنسانية؛ لأنه يمتص دماء البشر عن طريق استغلال حاجتهم و اضطرارهم.
الربا كمسألة أخلاقية
الربا واحد من الأعمال التي تعمق في الإنسان الانحـراف عـن المنهج السوي؛ لأن المرابي يستعبده المال، ويعيش ناظريه بريقه، فهو يسعى للحصول عليه بكل سبيل، وفي سبيل تحقيقه لهدفه يدوس القيم ويتجاوز الحدود، ويعتدي على المحرمات، فإنه يولد في الإنسان حب الأثرة والأنانية فلا يعرف إلا نفسـه، ولا يهمه إلا مصلحته ونفعه، وبذلك تنعدم روح التضحية والإيثار، وتنعدم معاني حب الخير للأفراد والجماعات وتحل محلها حبّ الذات والأثرة والأنانية، وتتلاشى الروابط الأخوية بين الإنسان وأخيه الإنسان فيغدو الإنسان (المرابي) وحشاً مفترساً، لا يهمه من الحياة إلا جمع المال وامتصاص دماء الناس.
هناك حلول وسبل للتغلب على أثر الربا وتقديم بدائل قانونية وشرعية تعزز الاستثمار والتوفير، ويمكننا دائماً استكشاف عدة مقاربات وسبل للتغلب على أثر الربا، ومن بينها:
التعليم المالي والتخطيط المالي
إنّ تعزيز التعليم المالي والوعي بأضرار الربا وأهمية الاستثمار والتوفير يمكن أن يكون له تأثير كبير في المجتمع، فتعزيز الوعي المالي وتثقيف الناس حول البدائل المتاحة للربا، يمكن تحفيز اتخاذ قرارات مالية أكثر وعيًا واختيار تلك البدائل التي تدعم الاستثمار الإنتاجي وتعزز التوفير.
البحث عن بدائل شرعية
يعتبر التمويل الإسلامي بديلاً قانونيًا وشرعيًا للربا، يتميز التمويل الإسلامي بتطبيق مبادئ شرعية تجنب الربا، مثل المشاركة في الأرباح والخسائر، وتوزيع المخاطر بين الأطراف المعنية، وتشتمل طرق التمويل الإسلامي على المضاربة (المشاركة في الأرباح والخسائر)، والمرابحة (تمويل مشروع بنسبة أرباح محددة)، والمرابحة المتوالية (تمويل تدفق النقد بنسبة محددة).
ومن البدائل الهامة: تشجيع الابتكار المالي، وتنظيم صناديق التمويل الاجتماعي، وتوفير الدعم والتسهيلات للشركات الناشئة والمشاريع الصغيرة والمتوسطة.
محق البركة وغضب الله: يقول الله تعالى: {مْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}، وفق ذلك حرب من الله ورسوله: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}.
ماذا يفعل الربا في صاحبه؟
الربا ليس ذنبًا هينًا، بل هو من الذنوب العظيمة التي توعَّد الله تعالى المتعامل به بعقوبات عاجلة وآجلة: فآكل الربا محارب لله ورسوله، كما أنه يُبعث يوم القيامة من قبره كالمجنون يصرع، والتعامل بالربا سبب لمَحْقِ المال فلا يُبارك فيه، والمتعامل بالربا ملعون، وأكل الربا من السبع الموبقات - أي: المهلكات - التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم.
ما هي سلبيات الربا؟
الربا شرُّه يخيم على كل متعامل به، يجعله يستغلُّ كلَّ قوى غيره وإنتاجه في كسبٍ يعود عليه، لكنه يصيبه بكسل يصحبه وسواسٌ دائم واضطراب وقلق مستمرٌّ.
هل الربا يؤدي إلى التضخم؟
النظام الربوي يؤدي في النهاية إلى ارتفاع الأسعار وظهور التضخم، والفائدة الربوية أضرت بالمجتمع باعتبارها عنصراً من عناصر ضعف الإنتاج.