أُمتنا الإسلامية غنية بالرجالِ العظام،المبدعين والقدوات في كلّ مَيدان، نقفُ لنتعرّف على أحدِ هؤلاءِ القامات، إنّهُ ابو حامد الغزالي حجة الإسلام ومجدد القرن الخامس زين الدين وشرف الأئمة،أحد مؤسسي المدرسة الأشعرية في علم الكلام،
وأحد أصولها الثلاثة بعد أبي الحسن الأشعري، وكانوا (الباقلاني والجويني والغزّالي) لُقّب الغزالي بألقاب كثيرة في حياته، أشهرها لقب “حجّة الإسلام”، وله أيضاً ألقاب مثل: زين الدين، ومحجّة الدين، والعالم الأوحد، ومفتي الأمّة، وبركة الأنام، وإمام أئمة الدين، وشرف الأئمة.
إن التعرف على حياة هذا العالم الجليل ومعرفة أسباب نبوغه وعلمه، هو استشفاف لنموذج فريد لرجل أنجبه الإسلام العظيم. فمن هو؟ وكيف نشأ وتعلم؟ وما أسباب نبوغه في علمه؟
اسم الغزالي ونسبه
أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزّالي الطوسي النيسابوري الشافعي، يُكنّى بأبي حامد.
مولد الغزالي
ولد الغزالي عام (450هـ) في مدينة طوس، ويُعرَف بـ”الغزّالي” نسبة إلى صناعة الغزل، حيث كان أبوه يعمل في تلك الصناعة، ويُنسب أيضاً إلى”الغَزَالي” نسبة إلى بلدة غزالة من قرى طوس،
وقد قال عن نفسه: (النّاس يقولون لي الغزّالي، ولستُ الغزّالي، وإنّما أنا الغَزَالي منسوبٌ إلى قرية يُقال لها غزالة)، وقد قال “ابن خلكان ” (أن نسبته إلى الغزّالي (بتشديد الزاي) هو المشهور، وهو أصحّ من نسبته إلى الغَزَالي).
نشأة الغزالي
كانت أسرته فقيرة الحال، إذ كان أباه يعمل في غزل الصوف وبيعه في طوس، ولم يكن له أبناء غيرَ أبي حامد، وأخيه أحمد والذي كان يصغره سنّاً.
كان أبوه مائلاً للصوفية، لا يأكل إلا من كسب يده، وكان يحضر مجالس الفقهاء ويجالسهم، ويقوم على خدمتهم، وينفق بما أمكنه إنفاقه، وكان يدعو الله كثيراً أن يرزقه ابناً ويجعله فقيهاً، فكان ابنه أبو حامد، وكان ابنه أحمد واعظاً مؤثراً في الناس.
ولما قربت وفاة أبيهما، أوصّى بهما إلى صديق له متصوّف، وقال له: (إِن لي لتأسُّفاً عظيماً على تعلم الخط، وأشتهي استدارك ما فاتني في وَلَديّ هذَيْن، فعلّمهما، ولا عليك أن تنفذ في ذلك جميع ما أخلّفه لهما)، فلما مات أقبل الصوفيّ على تعليمهما، حتى نفد ما خلّفهما لهما أبوهما من الأموال، ولم يستطع الصوفيّ الإنفاق عليهما.
عند ذلك قال لهما: (اعلما أنّي قد أنفقت عليكما ما كان لكما، وأنا رجل من الفقر والتجريد، بحيث لا مال لي فأواسيكما به، وأصلح ما أرى لَكمَا أن تلجئا إِلَى مدرسة، كأنكما من طلبة الْعلم، فَيحصل لَكمَا قوت يعينكما على وقتكما)، ففعلا ذلك، وكان هو السبب في علو درجتهما، وكان الغزاليّيقُول: (طلبنا الْعلم لغير الله، فأبى أن يكون إِلّا لله).
رحلة أبو حامد الغزالي في طلب العلم
الغزالي وقطاع الطرق
ابتدأ الغزالي طلبه للعلم في صباه، فأخذ الفقه في “طوس” على يد الشيخ “أحمد الراذكاني“، ثم رحل إلى “جرجان” وطلب العلم على يد الشيخ “ الإسماعيلي“، وفي طريق عودته من جرجان إلى طوس، واجهه قطّاع طرق، يروي الغزالي قائلاً: (قطعت علينا الطرِيق، وأخذ العيّارون جميع ما معي، ومضوا فتبعتهم، فالتفت إليّ مقدّمهم وقال: (ارجع ويحك وإِلا هلكت!)
فقلت له: (أسألك بالذي ترجو السلامة منه، أن ترد علي تعليقتي فقط، فما هي بشيء تنتفعون به)، فقال لي: (وما هي تعليقتك؟)، فقلت: (كتب في تلك المخلاة هاجرت لسماعها وكتابتها ومعرفة علمها)، فضحك وقال: (كيف تدّعي أنّك عرفت علمها، وقد أخذناها منك، فتجردت من معرفتها وبقيت بلا علم؟) ثم أمر بعض أصحابه فسلّم إِليّ المخلاة)،
قال الغزالي: هذا مستَنْطق أنطقه الله ليرشد به أمري، فلما وافيت طوس أقبلت على الاشتغال ثلاث سنين، حتى حفظت جميع ما علقته، وصرت بحيث لو قطع على الطريق لم أتجرد من علمي.).
أبو حامد الغزالي وإمام الحرمين الجويني
وفي عام (473هـ) رحل الغزّالي إلى نيسابور، وهي عاصمة السَّلجوقيين، ومدينة العلم بعد بغداد، ولازم إِمام الحرمين “أبو المعالي الجويني “إمام الشافعية في وقته، ورئيس “المدرسة النظامية“،
فدرس على يديه مختلف العلوم، من فقه الشافعية، وفقه الخلاف، وأصول الفقه، وعلم الكلام، والمنطق، والفلسفة، وجدّ واجتهد حتى برع وأحكم كل تلك العلوم، ووصفه شيخه أبو المعالي الجويني بأنه: (بحر مُغدِق) وكان الجويني يُظهر اعتزازه بالغزالي، حتى جعله مساعداً له في التدريس، وهم (400).
الغزالي ونظام الملك
عندما تُوفي أبو المعالي الجويني سنة (478هـ) ، خرج الغزالي إلى “العسكر” أي (عسكر نيسابور)، قاصداً (الوزير نظام الملك)، وكان له مجلس يجمع العلماء، فناظر الغزالي كبار العلماء في مجلسه وغلبهم، وأظهر كلامه عليهم، واعترفوا بفضله، وتلقوه بالتعظيم والتبجيل.
كان للوزير نظام الملك الأثر الكبير في الدفاع عن السنة المطَهَّرة، وذلك عن طريق تأسيس المدارس النظامية المشهورة.
وقد قبل الغزالي عرض نظام الملك بالتدريس في المدرسة النظامية في بغداد، وكان ذلك عام (484هـ)، ولم يتجاوز (34) من عمره،
الغزالي في بغداد
وصل الغزالي إلى بغداد سنة (484هـ)، ودرّس بالمدرسة النظامية، حتى أُعجب به الناس، لحسن كلامه، وفصاحة لسانه، وكمال أخلاقه.
وأقام على تدريس العلم ونشره بالتعليم والفتوى والتصنيف مدّة أربعة سنوات، حتى اتسعت شهرته وصار يُشدّ له الرّحال، ولُقّب يومئذٍ بـ “الإمام” لمكانته العالية، ولقّبه نظام الملك بـ “زين الدين” و“شرف الأئمة”.
وكان يدرّس أكثر من 300 من الطلاب في الفقه وعلم الكلام وأصول الفقه، وحضر مجالسه الأئمة الكبار.
رحلة أبو حامد الغزالي في المنقذ من الضلال
قبل أن يستقر أمر الغزالي على التصوف، مرّ بمراحل كثيرة في حياته الفكرية، كما يرويها هو نفسه في كتابه “المنقذ من الضلال”، فابتدأ بمرحلة الشكّ بشكل لا إرادي، والتي شكّ خلالها في الحواس والعقل وفي قدرتهما على تحصيل العلم اليقيني، ودخل في مرحلة من السفسطة غير المنطقية حتى شُفي منها بعد مدة شهرين تقريباً.
ليتفرّغ بعدها لدراسة الأفكار والمعتقدات السائدة في وقته، يقول: «ولما شفاني الله من هذا المرض بفضله وسعة جوده، أحضرت أصناف الطالبين عندي في أربع فرق:
المتكلمون : وهم يدعون أنهم أهل الرأي والنظر.
والباطنية : وهم يزعمون أنهم أصحاب التعليم، والمخصوصون بالاقتباس من الإمام المعصوم.
والفلاسفة: وهم يزعمون أنهم أهل المنطق والبرهان.
والصوفية: وهم يدعون أنهم خواص الحضرة، وأهل المشاهدة والمكاشفة.
ويتابع ويقول: (فابتدرت لسلوك هذه الطرق، واستقصاء ما عند هذه الفرق مبتدئاً بعلم الكلام، ومثنياً بطريق الفلسفة، ومثلثاً بتعلّم الباطنية، ومربعاً بطريق الصوفية).
فعكف على دراسة علم الكلام حتى أتقنه وصار أحد كبار علمائهم، وصنف فيه عدة من الكتب التي أصبحت مرجعاً في علم الكلام فيما بعد مثل كتاب “الاقتصاد في الاعتقاد”، إلا أنه لم يجد ضالته المنشودة في علم الكلام، ورآه غير واف بمقصوده، يقول عن نفسه: (فلم يكن الكلام (أي علم الكلام) في حقي كافياً، ولا لدائي الذي كنت أشكوه شافياً).
بعد ذلك توجّه لعلم الفلسفة ودرسها وفهمها، ثم نقدها بشدة بكتابه تهافت الفلاسفة.
ثم درس بعدها الباطنية فردّ عليهم وهاجمهم.
ليستقر أمره على علم التصوف.
بعد تلك المراحل بدأ اهتمام الغزالي يتّجه نحو علوم التصوف، فابتدأ بمطالعة كتبهم مثل؛ (قوت القلوب) “لأبي طالب المكي”، وكتب “الحارث المحاسبي”، والمتفرقات المأثورة عن “الجنيد”، فتأثر بهم تأثراً كبيراً، حتى أدّى به الأمر لتركه للتدريس في المدرسة النظامية في بغداد،
واعتزاله الناس وسفره لمدة (11 سنة) تنقل خلالها بين دمشق والقدس والخليل ومكة والمدينة المنورة، كتب خلالها كتابه المشهور في التصوف إحياء علوم الدين، وكانت نتيجة رحلته الطويلة تلك أن قال:
(وانكشفت لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، والقدر الذي أذكره لينتفع به أني علمتُ يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق).
الغزالي وأصحاب الفكر الباطني (الإسماعيلية)
انهمك الغزالي في البحث والاستقصاء والردّ على الفرق المخالفة بجانب تدريسه في المدرسة النظامية، ثمّ تصدّى الغزالي للفكر الباطني وهم “الإسماعيلية“، الذي كان منتشراً في وقته، وأصبح الباطنيون ذوو قوّة سياسية، حتى أنّهم قد اغتالوا الوزير نظام الملك عام (485هـ)،
فطلب الخليفة “المستظهر بالله” من الغزالي أن يحارب الباطنية في أفكارهم، فألّف الغزالي في الردّ عليهم كتب “فضائح الباطنية” و”حجّة الحق” و”قواصم الباطنية”.
الغزالي والفلسفة
كانت الفلسفة في عصر أبي حامد الغزالي، قد أثرت في تفكير الكثيرين من أذكياء عصره وسلوكهم، وأدى ذلك إلى التشكيك في الدين الإسلامي، والانحلال في الأخلاق، والاضطراب في السياسة، والفساد في المجتمع، فتصدّى أبو حامد الغزالي لهم، بعد أن عكف على دراسة الفلسفة لأكثر من سنتين، حتى استوعبها وفهمها، وأصبح كواحد من كبار رجالها،
يقول عن نفسه: (ثم إني ابتدأت بعد الفراغ من علم الكلام بعلم الفلسفة، وعلمت يقيناً أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم، من لا يقف على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمهم في أصل ذلك العلم!،
فشمرت عن ساق الجد في تحصيل ذلك العلم من الكتب، ثم لم أزل أواظب على التفكر فيه بعد فهمه قريباً من سنة، أعاوده وأردِّده، وأتفقد غوائله وأغواره، حتى اطَّلعت على ما فيه من خداع، وتلبيس وتحقيق وتخييل، واطلاعاً لم أشك فيه).
ثم بعد ذلك وصل إلى نتيجتهقائلاً: (فإني رأيتهم أصنافاً، ورأيت علومهم أقساماً، وهم على كثرة أصنافهم، يلزمهم وصمة الكفر والإلحاد، وإن كان بين القدماء منهم والأقدمين، وبين الأواخر منهم والأوائل، تفاوت عظيم، في البعد عن الحق والقرب منه)
تناول الغزالي الفلسفة بالتحليل التفصيلي، وذكر أصنافهم وأقسامهم، وما يستحقون به من التكفير بحسب رأيه، وما ليس من الدين، بذلك اعتُبر الغزالي أول عالم ديني يقوم بهذا التحليل العلمي للفلسفة، حتى قال الفيلسوف المشهور “رينان”: (لم تنتج الفلسفة العربية فكراً مبتكراً كالغزالي).
وقد رأى كثير من علماء المسلمين قديماً أن الغزالي رغم حربه للفلسفة، لم يزل متأثراً بها، حتى قال تلميذه “أبو بكر بن العربي”: (شيخُنا أبو حامد بَلَعَ الفلاسفةَ، وأراد أن يتقيَّأهم فما استطاع).
الغزالي والفكر الصوفي
بعد خوض الغزالي في علوم الفلسفة والباطنية، عَكَف على قراءة ودراسة علوم الصوفية، فتأثر بذلك، ولاحظ على نفسه بُعدُه عن حقيقة الإخلاص لله وعن العلوم الحقيقية النافعة في طريق الآخرة، وشعر أن تدريسه في النظامية مليء بحب الشهرة والعُجُب والمفاسد، عند ذلك عقد العزم على الخروج من بغداد، يقول عن نفسه:
ثم لاحظت أحوالي، فإذا أنا منغمس في العلائق، وقد أحدقت بي من الجوانب، ولاحظت أعمالي – وأحسنها التدريس والتعليم – فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة، ولا نافعة في طريق الآخرة، ثم تفكرت في نيتي في التدريس، فإذا هي غير خالصة لوجه الله، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار، وأني قد أشفيت على النار، إن لم أشتغل بتلافي الأحوال، لم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا، ودواعي الآخرة، قريباً من ستة أشهر أولها رجب سنة ( 488هـ)، في هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوماً واحداً تطييباً لقلوب المختلفة إلي، فكان لا ينطق لساني بكلمة واحدة ولا أستطيعها البتة، ثم لما أحسست بعجزي، وسقط بالكلية اختياري، التجأت إلى الله التجاء المضطر الذي لا حيلة له، فأجابني الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال والأهل والولد والأصحاب.
الغزالي ورحلة تطهير النفس
سنة (488هـ) خرج الغزالي إلى الشام قاصداً الإقامة فيها، مُظهِرَاً أنه متّجه إلى مكة للحجّ حذراً أن يعرف الخليفة فيمنعه من السفر إلى الشام.
فوصل دمشق ومكث فيها قرابة السنتين، لا شغل له إلا العزلة والخلوة، والمجاهدة، اشتغالاً بتزكية النفس، وتهذيب الأخلاق، يصعد منارة المسجد طول النهار، ويغلق على نفسه الباب. بعد ذلك رحل الغزالي إلى القدس واعتكف في المسجد الأقصى وقبة الصخرة، وهناك بدأ في تأليف كتابه العظيم“إحياء علوم الدين”.
وما لبث أن سافر إلى مكة والمدينة المنورة لأداء فريضة الحج، ثم عاد إلى بغداد، بعد أن قضى (11 سنة) في رحلته، وقد استقر أمره على الصوفية، ولم يدم طويلاً في بغداد حتى أكمل رحلته إلى نيسابور، ومن ثمّ إلى بلده طوس،
وهناك لم يلبث أن استجاب إلى رأي الوزير “فخر الملك” للتدريس في نظامية نيسابور مكرهاً، فدرّس فيها مدة قليلة، وما لبث أن قُتل فخر الدين الملك على يد الباطنية، من ثم ّ رحل الغزالي مرة أخرى إلى بلده “طابران” في طوس، وسكن فيها، متخذاً بجوار بيته مدرسة للفقهاء وخانقاه مكان للتعبّد والعزلة للصوفية.
الغزالي في عيون العلماء
الغزالي في عيون مادحيه
أبو المعالي الجويني: الغزالي بحر مغدق.
الذهبي: الشيخ الإمام البحر، حجة الإسلام، أعجوبة الزمان، زين الدين أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الشافعي، الغزالي، صاحب التصانيف والذكاء المفرط.
ابن الجوزي: صنف الكتب الحسان في الأصول والفروع، التي انفرد بحسن وضعها وترتيبها، وتحقيق الكلام فيها.
تاج الدين السبكي: حجة الإسلام ومحجة الدين التي يتوصل بها إلى دار السلام، جامع أشتات العلوم، والمبرز في المنقول منها والمفهوم، جرت الأئمة قبله بشأن ولم تقع منه بالغاية، ولا وقف عند مطلب وراء مطلب لأصحاب النهاية والبداية.
ابن كثير: كان من أذكياء العالم في كل ما يتكلم فيه.
الغزالي في عيون ناقديه
كان لأبي حامد الغزالي، كغيره من قادة الفكر، جماعة ممن انتقدوه، فأنكروا عليه بعض ما كتب في كتبه، أو بعض ما تبنّاه من أفكار، أو بعض ما اختاره من طريق الزهد والتصوف، وحتى مَن انتقده فقد أشاد بعلمه وفضله، فكان ممن انتقده:
أبو بكر الطرطوشي: والذي انتقد الغزالي في هجرانه للعلوم الشرعية، وإقباله على طريق الصوفية، وإدخاله الفلسفة، وانتقاده فيما بعد للفقهاء والمتكلمين، حتى قال عنه أنه «كاد ينسلخ من الدين»، متهماً إياه بأنه «غير أنيس بعلوم الصوفية ولا خبير بمعرفتها». ولقد ردّ تاج الدين السبكي على انتقاد الطرطوشي، وقال بأن الغزالي درس الفلسفة لينقضها، وأنه «كان ذا قدم راسخ في التصوف، وإِن لم يكن الغزاليّ يدري التصوف فَمن يدريه.
المازري: والذي أنكر على الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين إيراده الأحاديث الضعيفة، وأنكر عليه قراءته للفلسفة، فردّ عليه أيضاً “تاج الدين السبكي”، وبيّن علّة إنكاره على الغزالي، ألا وهي التعصّب “لأبي حسن الأشعري” في علم الكلام، وتعصّبه “لمالك بن أنس” في الفقه، فقد كان الغزالي ربما خالف أبا حسن الأشعري في مسائل فرعية في علم الكلام حتى أن المازري قال (من خطأ شيخ السّنة “أَبَا الْحسن الْأَشْعَرِيّ” فَهُوَ المخطيء).
ابن الصلاح: وقد انتقده بسبب إدخاله المنطق في علم أصول الفقه، وردّ عليه “تاج الدين السبكي “.
ابن الجوزي: له كلام في مدح الغزالي، وله كلام في انتقاده، وذلك في عدة مواضع في كتابه (تلبيس إبليس)، وقد ألف أيضاً كتاباً في الرد على إحياء علوم الدين سمّاه (إعلام الأحياء بأغلاط الإحياء).
ابن تيمية: وقد انتقده بقوة أيضاً، وذلك في مواضع متعددة في فتاويه، وفي كتابه (الرسالة السبعينية).
تلاميذ الغزالي
كانت مدرسة الغزالي تضم عشرات التلاميذ الأذكياء، وقد أثّر الغزالي ثأثراً كبيراً في جمهور كبير من تلاميذه، منهم:
أبو النصر أحمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الخمقدي، وتفقّه في طوس على الغزالي.
أبو منصور محمد بن إسماعيل بن الحسين العطاري، الواعظ في طوس والملقّب بـ “جندة”.
أبو الفتح أحمد بن علي بن محمد بن برهان، وكان حنبلياً، ثم تفقّه على الغزالي.
أبو سعيد محمد بن أسعد التوقاني، توفي 554 هـ.
أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن تومرت المصمودي، الملقّب بـ “المهدي”.
أبو حامد محمد بن عبد الملك الجوزقاني الإسفراييني، تفقّه على الغزالي في بغداد.
محمد بن يحيى بن منصور، وهو من أشهر تلامذته، تفقه على الغزالي، وشرح كتابه الوسيط.
أبو بكر بن العربي، القاضي المالكي، وهو من حمل كتابه إحياء علوم الدين إلى المغرب العربي عند عودته من رحلته المشرقية عام 495 هـ.
أحمد بن مَعَدّ بن عيسى بن وكيل التجيبي الداني الأُقْلِيشي، لم يكن له لقاء مباشر مع الغزالي، فإن أخذه وروايته لمؤلفات الإمام، كانت عن طريق شيخيه أبو بكر بن العربي وعبَّاد بن سَرْحَان المَعَافِرِي.
عبد القادر الجيلاني، والجيلاني ألتقى ب الغزالي وتأثر به حتى أنه ألف كتابه “الغُنية لطالبي طريق الحق” على نمط كتاب “إحياء علوم الدين”.
كتب الغزالي
ألّف الإمام الغزّالي خلال مدة حياته (55 سنة) الكثير من الكتب في مختلف صنوف العلم، حتى أنه قيل: (إن تصانيفه لو وزعت على أيام عمره أصاب كل يوم كتاب).
وبسبب شهرة الغزالي وتصنيفاته، نُسبت إليه الكثير من الكتب والرسائل، وأصبح من الصعب تحديد صحة نسبتها إليه.
وفي منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، بدأ المستشرقون في البحث في مؤلفات الغزالي، فنشر المستشرق “جوشه” بحثاً سنة 1858 م، تناول فيه (40) مؤلفا للغزالي، وحاول أن يحقق صحة نسبتها إليه. ثم تلاه “ماكدونلد “و”جولدتسهير” و”ماسينيون” و”مونتكمريي وات” و”بويج” وغيرهم، بأبحاث أخرى تناولت نفس الموضوع.
ثم جاء “عبد الرحمن البدوي” بعمل ضخم في كتاب أسماه «مؤلفات الغزالي» ونُشر سنة (1380هـ)، وفيه تناول البدوي (457) مصنفا يُنسب إلى الغزالي، وقسّمه على النحو التالي:
من 1 إلى 72: كتب مقطوع بصحة نسبتها إلى الغزالي.
من 73 إلى 95: كتب يدور الشك في صحة نسبتها إلى الغزالي.
من 96 إلى 127: كتب من المرجح أنها ليست للغزالي.
من 128 إلى 224: أقسام من كتب الغزالي أفردت كتبا مستقلة، وكتب وردت بعناوين مغايرة.
من 225 إلى 273: كتب منحولة.
من 274 إلى 380: كتب مجهولة الهوية.
من 381 إلى 457: مخطوطات موجودة ومنسوبة إلى الغزالي.
كتاب احياء علوم الدين
أشهر مؤلفات الغزّالي في التصوف كتابه إحياء علوم الدين، والذي قد حاز شهرةً وانتشاراً ما لم يقاربه أي كتاب من كتبه الأخرى، حتى صارت نسخه المخطوطة مبثوثة في مكتبات العالم.
كتاب الإحياء في ميزان المدح
وقد امتدح الكتاب غير واحد من علماء الإسلام، مثل ما قاله “العراقي المحدث” الذي خرّج أحاديث الإحياء، حيث قال عنه: «إنه من أجل كتب الإسلام في معرفة الحلال والحرام، جمع فيه بين ظواهر الأحكام، ونزع إلى سرائر دقت عن الأفهام، لم يقتصر فيه على مجرد الفروع والمسائل،
ولم يتبحر في اللجة بحيث يتعذر الرجوع إلى الساحل، بل مزج فيه علمي الظاهر والباطن، ومرج معانيها في أحسن المواطن، وسبك فيه نفائس اللفظ وضبطه، وسلك فيه من النمط أوسطه)، وقال غيره: (من لم يقرأ الإحياء فليس من الأحياء).
كما أُلّفت الكثير من الكتب في شرح واختصار الإحياء والدفاع عنه، مثل كتاب (الإملاء على مشكل الإحياء) والذي ألفه “الغزالي” نفسه للرد على من انتقده في عصره، وكذلك كتاب (إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين) “للزبيدي”، وتعريف الأحياء بفضائل الإحياء” لعبد القادر العيدروس”، وكذلك (المغني عن حمل الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار) “للعراقي”.
أما الاختصارات، فقد اختصره أخوه “أحمد الغزّالي” في كتاب (لباب الإحياء)، و(منهاج القاصدين)” لابن الجوزي”، ويعد بعض الباحثين كتاب (الغنية) للشيخ “عبد القادر الجيلاني”، مختصراً للأحياء كونه كتب على نفس المنهجية والنفس، وغيرها الكثير.
كتاب الإحياء في ميزان النقد
وعلى العكس من ذلك، فقد ذمّ جمع من العلماء الإحياء منتقدين فيه كثرة الأحاديث الضعيفة، وإيراده لقصص الصوفية، وقد أقر “الغزالي” بضعفه في علم الحديث، حيث قال عن نفسه:
(أنا مُزجَى البِضاعةِ في الحديث )، وأُلفت عدة كتب في الرد على الإحياء، مثل كتاب (إحياء ميت الأحياء في الرد على كتاب الإحياء) “لأبي الحسن ابن سكر”، و(إعلام الأحياء بأغلاط الإحياء) “لابن الجوزي“، و(الضياء المتلالي في تعقب الإحياء للغزالي) “لأحمد ابن المنيّر”.
وصل الأمر أن أُمر بحرق كتاب الإحياء في قرطبة على عهد “علي بن يوسف بن تاشفين “ثاني أمراء “المرابطين“.
سبب تسمية الكتاب بإحياء علوم الدين
أما عن سبب تسمية الكتاب بإحياء علوم الدين فهو القناعة التي وصل لها الغزالي بأن العلم والفقه الحقيقي هو الذي ينعكس على سلوك الإنسان نتيجة يقينه بأن الآخرة خيرٌ من الأولى، وهو بذلك يذم ما يسمى علوماً دينية، وتبنى على الإغراق في التفاصيل الفقهية، وترتيب المناظرات والفوز بها، وقد قسم الكتاب إلى أربع أجزاء بعد مقدمة عن العلم والتفريق بين أنواعه:
ربع العبادات: كالصلاة والزكاة والحج، موضحاً لبعض التفاصيل الدقيقة، المتعلقة بأثر العبادات هذه على قلب الإنسان.
ربع العادات: كالزواج والعمل لاكتساب الرزق.
ربع المهلكات: كالغرور والتكبر، وحب الدنيا والجاه، والإفراط شهوتي الطعام والجنس، وجعلهما باباً واحداً.
ربع المنجيات: بدأه بالتوبة، وأنَّ حقيقتها معرفة الله، ثم الخجل منه، فالندم، والاعتذار، ثم تكلم عن الصبر، والخوف من الله، وعبادة التفكر.
معظم ما كتبه الغزالي في الإحياء: يبدأ عادة بشرح واستدلال بآية من القرآن الكريم، ثم بحديث، ثم بأخبار الصحابة، ثم بأخبار الصالحين.
وفاة الغزالي
بعد أن عاد الغزّالي إلى طوس، بقي فيها بضع سنين، وما لبث أن تُوفي يوم الاثنين 14 جمادى الآخرة (505هـ) ـ، في “الطابران” في مدينة “طوس”، ولم يعقب إلا البنات.
روى “أبو الفرج بن الجوزي” عن أحمد أخو الغزالي: (لما كان يوم الإثنين وقت الصبح توضأ أخي أبو حامد وصلّى، وقال: (عليّ بالكفن)، فأخذه وقبّله، ووضعه على عينيه وقال:
(سمعاً وطاعة للدخول على الملك)، ثم مدّ رجليه واستقبل القبلة ومات قبل الإسفار) وقد سأله بعض أصحابه قبيل موته فقالوا له: (أوصِ)! فقال: (عليك بالإخلاص) فلم يزل يكررها حتى مات، رحمه الله تعالى.
وفي الختام: لا تنس مشاركة هذه المقالة مع الأصدقاء، كما يمكنك الاستفادة والاطلاع على المزيد من المقالات
1- يُعرَف بـ"الغزّالي" نسبة إلى صناعة الغزل، كان أبوه يعمل في تلك الصناعة. 2- قال عن نفسه: (النّاس يقولون لي الغزّالي، ولستُ الغزّالي، وإنّما أنا الغَزَالي منسوبٌ إلى قرية يُقال لها غزالة)
كم كتابا ألف الغزالي
(457) مصنفا يُنسب إلى الغزالي: من 1 إلى 72: كتب مقطوع بصحة نسبتها إلى الغزالي. من 73 إلى 95: كتب يدور الشك في صحة نسبتها إلى الغزالي. من 96 إلى 127: كتب من المرجح أنها ليست للغزالي. من 128 إلى 224: أقسام من كتب الغزالي أفردت كتبا مستقلة، وكتب وردت بعناوين مغايرة. من 225 إلى 273: كتب منحولة. من 274 إلى 380: كتب مجهولة الهوية. من 381 إلى 457: مخطوطات موجودة ومنسوبة إلى الغزالي.
ما أشهر كتبه
كتاب إحياء علوم الدين: أما عن سبب تسمية الكتاب بإحياء علوم الدين فهو القناعة التي وصل لها الغزالي بأن العلم والفقه الحقيقي هو الذي ينعكس على سلوك الإنسان نتيجة يقينه بأن الآخرة خيرٌ من الأولى.
هل كان الغزالي ملحدا
فابتدأ بمرحلة الشكّ بشكل لا إرادي، والتي شكّ خلالها في الحواس والعقل وفي قدرتهما على تحصيل العلم اليقيني، ودخل في مرحلة من السفسطة غير المنطقية حتى شُفي منها بعد مدة شهرين تقريباً، وبدأ يرد على أصحاب الضلال والبدع.