أخبر الإمام أحمد بن حنبل طبيبه: عن موضع في ظهره يؤلمه بشدة، أكثر من أي موضع آخر من مواضع السياط التي ضربوه بها، لم يعرف الطبيب السبب؟ فسأل السجناء ذوي الخبرة، فأخبروه أنّ الضرب قد يؤدي أحياناً إلى تَمَوُت قطعة من اللحم، إذا لم يتم إخراجها قد تؤدي إلى الموت.
بينما كان الطبيب يشق الموضع ليستخرجها، كان الإمام وهو في شدة الألم يردد: “اللهم اغفر للمعتصم“(المعتصم هو الخليفة الذي أمر بضربه)، فلما سألوه: لماذا كنت تدعوا له؟ قال: هو ابن عم رسول الله ﷺ، فكرهت أن آتي يوم القيامة وبيني وبين أحد من قرابته خصومة، فهو مني في حلّ.
النفوس الكبيرة هي التي تعفوا وتسامح، وإلا فإن الانتقام قد يجر الأمة كلها إلى الهاوية، ومن أعظم النماذج الحديثة في التسامح ” نيلسون مانديلا”: الذي ذاق الويلات من الحكام البيض.
من هو نيلسون مانديلا؟
ولد نيلسون مانديلا عام (1918م) في جنوب إفريقيا، وكان أبوه زعيماً قبلياً فتدرب على القيادة منذ صغره، ثم درس الحقوق وصار محامياً، ودخل النشاط السياسي عام (1944م) عندما انضم إلى المؤتمر الوطني الأفريقي:
وهو منظمة مناهضة لسياسة التمييز العنصري التي جعلت قلة من البيض البريطانيين يتحكمون بمصير الأغلبية الساحقة من السكان الأصليين السود.
نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا
كان البيضيشكلون أقل من 10% من السكان في جمهورية جنوب افريقيا، ومع ذلك كان الحكم كله لهم، ومنعوا السود حتى من حق التصويت، واعتبر العنصريون البيض أنفسهم أهل البلاد.
توارثوها عن أسلافهم البريطانيين، ثم استقلوا عن موطنهم الأصلي فأقاموا نهضتها العلمية، وطوروها صناعياً حتى جعلوها في مصاف الدول الأوروبية.
هذا التطور والرخاء كانت تحتكره الأقلية البيضاء وتنتفع به، بينما الأغلبية السوداء تعاني الفقر والمهانة، وتتعرض لممارسات اضطهاد عنصري شديد بالإضافة للسياسي.
وفي انتخابات جنوب إفريقيا عام (1948م) سيطر على السلطة حزب “هيرنانغ ناسيونالي” أي الحزب الأبيض الإفريقي، ذو النزعة العنصرية الشديدة، فقنن ووسع تشريعات جديدة للفصل العنصري.
برز اسم “نيلسون مانديلا” في عام (1950م)، عندما أصبح رئيساً لجمعية شباب المؤتمر الإفريقي، ونائباً لرئيس المؤتمر نفسه، فبدأ الحزب الاستعداد لحملة تواجه نظام الفصل العنصري، واعتمدوا سياسة اللاعنف:
لكونه خياراً أخلاقياً.
لأنه مر واقعي: فليس لديهم القدرة على مواجهة الجيش الذي يتحكم به البيض.
ألقى مانديلا خطاباً أمام حشد مكون من (10) آلاف شخص، شكل هذا الخطاب انطلاقة لحملة احتجاجات شديدة ضد الرجل الأبيض، فتعرض مانديلا للاعتقال لفترة وجيزة، نتج عن هذه التحركات ازدياد عدد الأفريقيين المنتسبين إلى حزب المؤتمر الإفريقي من (20 إلى 100) ألف منتسب في سنة واحدة.
لجوء مانديلا إلى العمل السري والعسكري
ردت الحكومة البيضاء باعتقالات جماعية، وأصدرت “قانون السلامة العامة” عام (1953م)، الذي يسمح بتطبيق الأحكام العرفية:
فعطلوا الدستور وتسلم الجيش السلطة، واتهم مانديلا بالخيانة العظمى وأدين بجرائم أخرى، فلجأ للاختباء والعمل السرّي، ثم تم حظر نشاط حزب المؤتمر الإفريقي، الأمر الذي دفع مانديلا لتشكيل تنظيم عسكري أطلق عليه “رمح الشعب”.
اعتقال مانديلا والحكم عليه بالسجن
تم القبض على مانديلا عام (1962م)، وحكم عليه بالسجن المؤبد، فبقي في السجن مدة (27) سنة، أودع سجن بريتوريا وعمره (44) سنة وخرج وعمره (77).
مانديلا في السجن
و هو في زنزانته: بدأ دراسته بمراسلة جامعة لندن بالتحضير لبكالوريوس الحقوق ، ثم نقل من سجن “بريتوريا” إلى سجن في جزيرة “روبن آيلاند”.
وهناك بقي (18) سنة معزولًا في زنزانة رطبة، مساحتها 3×2 م فيها حصيرة من القشّ، رغم هذه الظروف إلا أنّ مانديلا لم يفوت أي فرصة، فأنشأ “جامعة جزيرة روبن” التي كان يحاضر فيها السجناء حسب خبراتهم واختصاصهم.
في هذه الفترة درس مانديلا (الإسلام، واللغة الأفريكانية، وتعمق بالحقوق)، ثم بدأ الضغط العالمي على حكومة جنوب إفريقيا فتحسنت ظروف السجن، وبحلول عام (1975م) أصبح من الفئة A : فسمحوا له بعدد أكثر من الزيارات والرسائل.
راسل مانديلا عدد من النشطاء المناهضين للفصل العنصري، وفي عام (1982م) نقل مانديلا إلى سجن “بولسمور” مع عدد من كبار رفاقه في الحزب.
وقاموا بعزلهم بهدف القضاء على تأثيرهم بالنشطاء الأصغر سناً، يتحدث هو عن هذه الفترة فيقول: (إذا خرجت من السجن في ذات الظروف التي دخلت بها، فإنني سأقوم بنفس الممارسات التي سجنت من أجلها).
المفاوضات وخروج مانديلا من السجن
قرر رئيس جنوب إفريقيا الأسبق “بي دبليو بوتا”: السماح للمواطنين الملونين والهنود بتشكيل برلمانات خاصة بهم، لتمثلهم في مفاوضاتهم مع الحكومة، وأعطاهم الحق بإدارة التعليم والصحة والإسكان الخاص بهم.
واستثنى السود من ذلك، فشعر مانديلا أنّ الهدف من ذلك: تقسيم الحركات المناهضة لنظام الفصل العنصري على أسس عرقية.
هذه التصرفات أدت لازدياد أعمال العنف في أنحاء البلاد، وتوقفت البنوك الدولية عن الاستثمار في جنوب إفريقيا، مما أدى إلى حالة من الركود الاقتصادي في البلاد.
وبدأت الضغوط الدولية المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين، فعرضت الحكومة على مانديلا الإفراج عنه مقابل التخلي عن العنف كسلاح سياسي دون قيد.
لكن مانديلا رفض هذا العرض وأصدر بيانًا يقول فيه: (الأحرار فقط يمكنهم التفاوض)، كان ذلك عام (1985م).
تصاعدت أعمال العنف في البلاد، وشن حزب مانديلا (231) هجومًا مسلحًا ذلك العام، هذا يظهر أثر إرهاب الدولة الذي يحول الحركات العلنية إلى سرية.
ثم يزيد الضغط فيحولها إلى حركات مسلحة، بعدها قام النظام العنصري باستخدام الجيش والفرق العسكرية لمحاربة المقاومة، كما قام سرًّا بتمويل حركة “الزولو” القومية التي تخالف حزب مانديلا.
ازدادت التحركات الدولية: ووضعت جماعات السود شرطًا لبدء أي مفاوضات تتعلق بمستقبل البلاد إطلاق سراح مانديلا ، فوافقت الحكومة على إطلاق سراحه بالشرط السابق، لكنه أصرّ على موقفه.
وفي عام (1988م) تجمع آلاف المواطنين في “ومبلي” في لندن؛ احتفالًا بميلاد مانديلا السبعين قدم فيه عرض لمساوئ التمييز العنصري، وفي العام التالي التقى مانديلا بـ “بوتا” الرئيس الأسبق بصورة غير رسمية، ثم بالرئيس التالي “دي كليرك”.
أطلق سراح مانديلا في (11-2-1990م) ، وانتخب في الشهر التالي نائبًا لحزب المؤتمر الإفريقي وقامت الحكومة بالاعتراف به بشكل رسمي.
ثم جرت المفاوضات معها لوضع دستور جديد لجنوب إفريقيا يمنح السود (حق المواطنة، وحق الانتخاب)، فأصدر مانديلا أمرًا بإيقاف الكفاح المسلح الذي بدأ من عام (1960م)، واستمر مدة ثلاثين سنة من الصمود من أجل الحقوق.
فوز مانديلا بمنصب الرئاسة
عام (1993م) تم انتخاب مانديلا رئيسًا للحزب، وهنا واجهه تحدٍ كبير تمثل في رغبة قطاع واسع من السود بالانتقام، ومحاكمة كل من له صلة بالنظام العنصري.
لكن مانديلا حال دون ذلك وكان هذا الخيار الأمثل الذي لولاه لانجرفت جنوب إفريقيا إلى حرب أهلية، فطلب من شعبه نسيان الماضي بكل آلامه وأحزانه وذكرياته الأليمة، وحثهم على ممارسة ضبط النفس والسمو فوق الجراح والأوجاع.
هذه هي قيمة مانديلا التي جعلته متفردًا بين المناضلين، وليس مدة سجنه الطويلة أو طبيعة النضال ضد النظام العنصري، قيمته أنه دخل على حالة عصية على الحل ورغبات الانتقام.
فجاء بأطروحات ذات أبعاد إنسانية تصالحية، أطروحة التسامح التي اقترنت بقوله: (نحن نغفر لكننا لا ننسى)، وهكذا استطاع نزع فتيل هذه الأزمات.
وصل مانديلا بشعبه إلى برّ الأمان، وقادهم إلى الحرية والرخاء والتعايش السلمي، فجمع بين الماضي والحاضر، بين البيض والسود، وأنشأ جهازاً قضائياً وسياسياً لتثبيت المصالحة.
وأجريت أول انتخابات حرة عام (1994م)، اشترك فيها البيض والسود، وفاز فيها مانديلا بشكل كاسح وأصبح أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا، وأغلقت أكثر من (300) سنة من التمييز العنصري في البلاد.
ركزت حكومة نيلسون مانديلا على تحقيق المصالحة الوطنية من خلال:
تفكيك أي شيء له علاقة بالفصل العنصري.
تعزيز المصالحة السياسية ووضع دستور جديد للبلاد..
تشكيل لجنة للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في الماضي.
الانتقال من حكم الأقلية إلى الديموقراطية متعددة الأحزاب والثقافات والعرقيات.
رأى تضرر الاقتصادات الإفريقية برحيل النخب البيض، فطمأنهم ومنحهم الغفران (الشعب الشجاع لا يخشى المسامحة من أجل السلام).
وفاة نيلسون مانديلا
في عام (1997م) أفسح مانديلا المجال لنائبه “مبيكي” لتولي رئاسة الحزب ثم رئاسة البلاد، وتلقى مانديلا أكثر من (250) جائزة عالمية منها:
جائزة نوبل
ميدالية الرئاسة الأمريكية للحرية
وسام لينين من النظام السوفيتي
وتمتع مانديلا باحترام عميق في كل العالم، وفي جنوب إفريقيا كان يلقّب بـ “أبي الأمة”.
توفي نيلسون مانديلا في (5-12-2013م) محاطًا بأسرته، وشارك في جنازته (90) ممثل لرؤساء دول العالم.
كان صاحب قدرة عالية في إدارة الصراع، و قدرة أعظم في تجاوز صراع النفس من أجل المسامحة.
التسامح في الإسلام
{لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} هذا شعار الصالحين، لما اشتد بلاء قريش على النبي ﷺ بعد وفاة ناصره عمه أبي طالب، ذهب إلى الطائف يدعوهم إلى الله:
(فأخرجوه من ديارهم، وأغروا به سفائهم، وأدموه بالحجارة)، فعمد إلى الظل يناجي ربه فجاءه ملك الجبال وناداه فقال: (يا محمد، إنّ الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعثني لتأمرني بأمرك: إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين)، فقال النبي ﷺ: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئًا).
لما أتي عبد الملك بن مروان بأسارى ثورة ابن الأشعث، قال لوزيره رجاء بن حيوة: ماذا ترى؟
فقال: (إنّ الله تعالى قد أعطاك ما تحبّ من الظفر، فأعطي الله ما يحب من العفو).
من يحتسب الأذى الذي يصيبه في سبيل الله؛ يمتلك القدرة النفسية على التسامح، وهذه قضية لا يستطيعها إلا كبار النفوس، كالحروب الصليبية التي ضحت بدماء المسلمين في القدس فقابلها صلاح الدين الأيوبي بنفس كبيرة، مستذكرًا قول النبي ﷺ عندما قدر على أعدائه:
(اذهبوا فأنتم الطلقاء)، وكم رأينا من عمليات انتقام رهيبة ذهب ضحيتها شعوب وأمم،
وختامًا- يقول نيلسون مانديلا:
(إنّ الضحية لا تنسى الظلم الذي وقع عليها، لكنها يمكن أن تغفر وتسامح).
وفي الختام: لا تنس مشاركة هذه المقالة مع الأصدقاء
كما يمكنكم الاستفادة والاطلاع على المزيد من المقالات:
قبض على مانديلا عام (1962م)، وحكم عليه بالسجن المؤبد، فبقي في السجن مدة (27) سنة، أودع سجن بريتوريا وعمره (44) عامًا وخرج وعمره (77) سنة.
ما هي أقوال نيلسون مانديلا في التسامح؟
- (نحن نغفر لكننا لا ننسى). - (إنّ الضحية لا تنسى الظلم الذي وقع عليها، لكنها يمكن أن تغفر وتسامح).
ما هي الجوائز التي نالها مانديلا؟
تلقى مانديلا أكثر من (250) جائزة عالمية منها: (جائزة نوبل – ميدالية الرئاسة الأمريكية للحرية – وسام لينين من النظام السوفيتي)، وتمتع مانديلا باحترام عميق في كل العالم، وفي جنوب إفريقيا لقّب بـ "أبي الأمة".