روائع قصص التابعين تنبع من خيرُ من يُقتدى بهِم بعد الأنبياء عليهُم الصلاة والسلام؛ لِعلمهِم و وَرعِهم وزُهدهِم، وحِرصهم على الدين وتطبيقِ أحكامه والالتزام بتعاليمِه، نعيشُ معهم في لمحات من قصصهم المليئة بالعبرِ والدروس، وبطلنا اليوم هو زين العابدين “علي بن الحسين بن علي” السجّاد الزكيّ، يقول عنه الزهري: (مَا رَأَيْتُ قرشيًا أَفْضَلُ مِنْهُ).
مولد زين العابدين
ولد سنة (38هـ) في المدينة المنورة، وتوفي فيها سنة (95هـ).
نسب زين العابدين
نسبه من قبل والده عليه السلام
أبو الحسن علي “السجاد” بن الحسين بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه.
المعروف أيضًا بلقب “زين العابدين”.
نسبه من قبل والدته
أمهغزالة (شاه زان) بنت “يزدجرد كسرى فارس”، أعظم ملوك الأرض حينها.
قصة زواج الحسين بن علي من ابنة يزدجرد ملك الفرس
عند انهيار دولة الفرس سيقت غنائمها إلى المدينة المنورة، ومن بينها سبي عظيم، هو أعظم سبي يدخل إلى المدينة المنورة، ما بين أمراء وقادة، ومن بين السبايا كانت بنات “يزدجرد” كسرى الفرس، وعُرِضَ السبي في السوق، وقام الناس بشراءهم وآلت الأموال إلى بيت مال المسلمين.
تم بيع السبي كلهإلا بنات كسرى، وكُنَّ من أجمل النساء وأنضرهن شبابًا، فلما عُرِضنَ للبيع، وهُنّ بنات أعظم ملوك الأرض حينها، أطرقن إلى الأرض من الذل والمهانة، وبدأت الدموع تنزل من عيونهن، فانتبه لهنّ علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه -وكان قاضي القضاة في خلافة عمر بن الخطاب رضوان الله عليه- وتذكر قول النبي ﷺ: «ارحموا عزيز قومٍ ذلّ».
فذهب إلى الخليفة عمر بن الخطاب، وقال: (يا أمير المؤمنين: إنّ بنات الملوك لا يعاملن معاملة غيرهن!)، فقال عمر: (صدقت ولكن كيف؟)، فقال:
(لا يُعرضن للبيع أمام العوام، وإنما تقرر قيمة غالية لأثمانهن، ويُخَبَّر كبار تجار المسلمين، ممن عنده القدرة على شرائهن، ويتم استلام العروض، ثم تُعرض العروض عليهِنَّ، وهُنَّ يَختَرن من يَشَأن)، ويحسب للإمام علي كرم الله وجهه حسن قراءة الموقف وحسن القضاء في هذا الأمر.
تم تنفيذ هذا المقترح وتوالت العروض من كبار تجار المسلمين، وكان من بين العروض: عرض “لعبد الله بن عمر بن الخطاب“، وأخر من “محمد بن أبي بكر الصديق“، وثالث من “الحسين بن علي” رضوان الله عليهم أجمعين، فلما أُخبرت “بنات كسرى” بهذه العروض ارتحن، لأنهن سينزلن تحت أبناء الخلفاء العظماء.
فاختارت“الحسين بن علي” بنت اسمها“شاه زان”: أي ملكة النساء، فلما نزلت في بيت الحسين، رأته كيف يعامل العبيد كإخوة له، يكرمهم، ويحسن إليهم، ولا يكلفهم فوق طاقتهم، وتذكرت كيف كان والدها وقومها يعاملون العبيد، ويتفننون في استعبادهم، فأبهرها رُقِيُّ هذا الدين (الإسلام)،
فسألت الحسين عنه؟ فشرحه لها وانشرح صدرها للإسلام، فأسلمت ابنة كسرى، وحسن إسلامها، وفرح بها الحسين، فأعتقها وتزوجها.
أرادت “شاه زان”قطع أي صلة لها بالوثنية والكفر، فغيرت اسمها إلى “غزالة”، فسعدت بزوجها وسعد بها، وأكرمها الله بولد للحسين وسمته “عليًا” تيمنًا باسم جده علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه،
لكن فرحة “غزالة” بوليدها لم تدم إلا لحظات، لأنّ حُمّى النفاس أصابها، فماتت وطفلها رضيع، فتولى رعاية هذا الطفل أَمَةً عندها، أحبّته ورعته أفضل من رعاية الوالدة لوليدها، فنشأ لا يعرف هذه الأَمَة إلا بصفتها أُمَّه.
نشأة علي بن الحسين
لما وصل سن التمييز، بدأ ينهل العلم من مدرستين:
المدرسة الأولى-مدرسة بيت النبوة: ومعلمه الأول هو والده الحسين بن علي عليهما السلام، وأعظم بهذا المعلم!
المدرسة الثانية-مسجد رسول الله ﷺ: الذي كان يموج بأصحاب النبي، فأخذ ينهل من معينهم، ويقرأ على أيديهم كتاب الله، والحديث، والفقه، والسيرة، ومغازي رسول الله ﷺ، والشعر العربي.
غير أنه تعلق أشد التعلق بالقرآن الكريم، فكان إذا قرأ آيةً فيها ذكر الجنة طار شوقًا إليها، وإذا قرأ آيةً فيها ذكر النار ارتعدت فرائصه، فكان بحقٍ نموذجًا فريدًا بين قريش كلها، في العبادة والتقوى والخلق والعلم والإحسان والبر، وصار مضرب المثل في كل ذلك.
علي بن الحسين عبادته وأخلاقه
القاب علي بن الحسين
كان مضرب المثل بالعبادة: فسُمي “زين العابدين”، واشتهر به أكثر من اسمه علي بن الحسين.
وكان يطيل السجود في صلاته: فسماه أهل المدينة بـ “السجاد”.
وبلغ من صفاء النفس، ونقاء القلب، والخلق العالين أن: سُمِّي بـ “الزكي”.
عبادة علي بن الحسين
سئل مرة عن رجفته إذا وقف للصلاة؟، فقال: (ويحكم ألا تعلمون بين يدي من أقف؟ ولا تعلمون من أناجي؟ وأنا أقف أمام العظيم العليم الجبار سبحانه).
وحُبِّبَ إليه الدعاء: فالدعاء لبّ العبادة، وكان يستفيض بالدعاء إذا كان أمام الكعبة متمسكًا بأستارها.
مما نقل عنه في الدعاء: (رب لقد أذقتني من رحمتك ما أذقتني، وأوليتني من إنعامك ما أوليتني، فصرت أدعوك آمنًا من غير وجل، وأسألك مستأنسًا من غير خوف، رب إنّي أتوسل إليك توسل من اشتدّت فاقته إلى رحمتك، وضعفت قوته عن أداء حقوقك، فاقبل مني دعاء الغريق الغريب، الذي لا يجد لإنقاذه إلا أنت يا أكرم الأكرمين).
رآه “طاوس بن كيسان” ذات مرة، واقفًا في ظلال البيت العتيق، وهو يتملل تململ السليم – أي: المريض-، ويبكي بكاء السقيم، ويدعو دعاء المضطر، فوقف ينتظره حتى كفّ عن بكائه، وفرغ من دعائه، فتقدّم نحوه وقال له: (يا ابن بنت رسول الله، رأيتك على هذه الحالة، ولك فضائل ثلاث أرجو أن تؤمنك من الخوف؟)،
فقال زين العابدين: (وما هن يا طاووس؟)، فقال: (إحداهن: أنك ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثانية:شفاعة جدّك لك، والثالثة: رحمة الله).
فقال له: (ياطاووس: إن انتسابي إلى رسول الله لايؤمنني؛ بعد أن سمعتُ قول الله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}، وأما شفاعة جدي لي؛ فإن الله تعالى يقول: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى}، وأما رحمته تعالى فهو يقول: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}.
أخلاق علي بن الحسين
أفاضت التقوى على زين العابدين ما شاء الله أن تفيض من الصفات الكريمة، حتى امتلأت كتب السير وزهت صفحاتها بأخلاقه وكريم صفاته ونبل مواقفه، من تلك المواقف:
يقول “الحسن بن الحسن بن علي”: (حدثت بيني وبين ابن عمي جفوة، فذهبت إليه وأنا أتميّز غيظًا منه، وكان “زين العابدين” جالسًا في مسجد رسول الله، وحوله أصحابه، فأغلظت له بالكلام، فلم يرد عليّ بأي كلمة، فلما كان الليل، إذ بطارق يطرق الباب، ففتحت فإذا بـ”زين العابدين” يقف أمام بابي، وما كان عندي شك أنه جاء يرد على كلامي،
فقال: (يا أخي إن كنت صادقًا فيما قلت لي؟ فغفر الله لي، وإن كنت غير صادق؟ فغفر الله لك، والسلام عليكم)، ومضى، يقول الحسن: فلحقت به وقلت له: (لا جرم، لا عُدتُ إلى أمر تكرَهُه)، فرقّ لي، وقال: (وأنت في حِلٍّ مما قلت لي).
روي أنّ رجلًا تبع الإمام علي بن الحسين حين خرج من المسجد، فجعل يشتمه و”زين العابدين” لا يردّ، فلمّا فرغ الرجل اجتمع عليه الناس، يريدون ضربه لتماديه على الإمام، فأقبل عليه زين العابدين، وقال: (دعوه، إنّ الذي ذكرته هو ما تعلمه، وما ستره الله علي أكثر)،
ثمّ قال له: ألك حاجة يا رجل؟ فخجل الرجل، فأعطاه زين العابدين ثوبه وأمر له بألف درهم، فانصرف الرجل صارخًا: (أشهد أنّك ابن رسول الله).
كان يحبُّ عمل الخير: ففي كل ليلة يحمل الدقيق يضعه على عاتقيه، ويخرج يوزعه على الفقراء دون معرفة منهم له، كان يطوف على (100) من بيوت فقراء المسلمين، لم يعرفوا صنيعه حتى مات وانقطع الدقيق عنهم، فعلموا أنه من كان يطوف عليهم في كل ليلة.
علي بن الحسين وحبه لعتق العبيد
كان ثريًا شديد الثراء، وسع الله عليه الرزق، فكانت تجارته رابحة، ولم يكن له رغبة بالغنى، كان زاهدًا بالدنيا ومتاعها، وكان يحب شراء العبيد ليعتقهم لوجه الله تعالى:
يروي أحد عبيده فيقول: كنت غلامًا لعلي بن الحسين، فأرسلني في مهمة فأبطأت عليه، فلما عدت نزل عليَّ بالسوط وبكيت، لأنه ما ضرب أحدًا قبلي قط، فقلت له: (الله الله يا علي بن الحسين، تستخدمني في حاجة فأقضيها لك ثم تضربني؟)، فانتبه “زين العابدين” إلى خطئه وبكى،
وقال للغلام: (اذهب إلى مسجد رسول الله، فصل ركعتين، ثم قل: اللهم اغفر لعلي بن الحسين، فإذا فعلت فأنت حرّ لوجه الله تعالى)، فذهبت وصليت ودعوت له، وما عدتُ إلى داره إلا وأنا حرّ.
كان كثير العتقللعبيد: حتى يقال أنه أعتق (1.000) عبد في حياته، كان العبيد عنده يعتقون قبل مضي عام عنده، وكان أكثر ما يعتق في ليلة الفطر، ويطلب منهم طلبًا واحدًا فقط وهو: (أن يتوجهوا إلى القبلة ويدعو: اللهم اغفر لعلي بن الحسين)، وكان يعطي لعبده المعتق ما يبدأ به حياته كحرّ، فكان يجمع لهم فرحتان: فرحة الفطر، وفرحة العتق مع الغنى.
وكان يعتق العبد:
إذا أحسن في عمل ما.
إذا أساء ثم تاب.
قصيدة الفرزدق في مدح زين العابدين
حدث أن ولي العهد “هشام بن عبد الملك” أتى المسجد الحرام يريد الحج، ورغب بتقبيل الحجر الأسود، فأخذ الجند بدفع الناس ليفسحوا المجال للأمير؛ ليقبل الحجر الأسود، والناس تزاحمهم على تقبيله، ثم سمع الناس أصوات تهليلٍ وتكبيرٍ من أحد أبواب الحرم.
فتوقف الطواف ونظر الناس تجاه الصوت، فوجدوا رجلًا جميل المنظر، وسيمًا عليه السكينة والوقار، يسير في كوكبة من أصحابه، والناس تفتح له الطريق حبًّا له، حتى وصل إلى الحجر الأسود وقبّله، وهشام ينظر إليه ويقول: (من هذا الذي أكرمه الناس؟!)، فردّ عليه الشاعر الفرزدق بقصيدته العصماء:
بِكَفِّهِ خَيزُرانٌ ريحُهُ عَبِقٌ من كَفِّ أَروَعَ في عِرنينِهِ شَمَمُ
يَكادُ يُمسِكُهُ عِرفانُ راحَتِهِ رُكنُ الحَطيمِ إِذا ما جاءَ يَستَلِمُ
اللَهُ شَرَّفَهُ قِدماً وَعَظَّمَهُ جَرى بِذاكَ لَهُ في لَوحِهِ القَلَمُ
هذا هو “علي زين العابدين” سبط رسول الله، صورة فذة للتابعين ولأهل بيت النبي صلوات الله وسلامه عليهم، صورة رائعة للخشية من الله عز وجل في السرّ والعلن، كان يتعب نفسه بالعبادة، خوفًا من عقاب الله وطمعًا في ثواب الله تعالى.
رحمه الله تعالى ورفع قدره وجاهه.
وفي الختام: لا تنس مشاركة هذه المقالة مع الأصدقاء.
كما يمكنك الاستفادة والاطلاع على المزيد من المقالات:
كان مضرب المثل بالعبادة: فسُمي "زين العابدين"، واشتهر به أكثر من اسمه علي بن الحسين. -وكان يطيل السجود في صلاته: فسماه أهل المدينة بـ "السجاد". -وبلغ من صفاء النفس، ونقاء القلب، والخلق العالين أن: سُمِّي بـ "الزكي".
ما نسب زين العابدين
من جهة أبيه: علي بن الحسين بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه. من جهة أمه: غزالة (شاه زان) بنت "يزدجرد كسرى فارس"، أعظم ملوك الأرض حينها.
ما هي المدارس التي تربى بها؟
المدرسة الأولى- مدرسة بيت النبوة: ومعلمه الأول هو والده الحسين بن علي عليهما السلام، وأعظم بهذا المعلم! المدرسة الثانية- مسجد رسول الله ﷺ: الذي كان يموج بأصحاب النبي، فأخذ ينهل من معينهم، ويقرأ على أيديهم كتاب الله، والحديث، والفقه، والسيرة، ومغازي رسول الله ﷺ، والشعر العربي.
لماذا كان يرتجف عند الصلاة؟
فأجاب: (ويحكم ألا تعلمون بين يدي من أقف؟ ولا تعلمون من أناجي؟ وأنا أقف أمام العظيم العليم الجبار سبحانه).
ماهي صور أعمال الخير لديه؟
في كل ليلة يحمل الدقيق يضعه على عاتقيه، ويخرج يوزعه على الفقراء دون معرفة منهم له، كان يطوف على (100) من بيوت فقراء المسلمين، لم يعرفوا صنيعه حتى مات وانقطع الدقيق عنهم، فعلموا أنه من كان يطوف عليهم في كل ليلة. كان يحب شراء العبيد ليعتقهم لوجه الله تعالى، حتى قالو أنه أعتق (1000) من الرقيق.
ما قصة قصيدة الفرزدق: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته؟
حدث أن ولي العهد "هشام بن عبد الملك" أتى المسجد الحرام يريد الحج، ورغب بتقبيل الحجر الأسود، فأخذ الجند بدفع الناس ليفسحوا المجال للأمير؛ ليقبل الحجر الأسود، والناس تزاحمهم على تقبيله، ثم سمع الناس أصوات تهليلٍ وتكبيرٍ من أحد أبواب الحرم. فتوقف الطواف ونظر الناس تجاه الصوت، فوجدوا رجلًا جميل المنظر، وسيمًا عليه السكينة والوقار، يسير في كوكبة من أصحابه، والناس تفتح له الطريق حبًّا له، حتى وصل إلى الحجر الأسود وقبّله، وهشام ينظر إليه ويقول: (من هذا الذي أكرمه الناس؟!)، فردّ عليه الشاعر الفرزدق بقصيدته العصماء