التسامح مفتاح خير عظيم
يُعلمنا الإسلام التسامح مع الناس عندما يُسيئون إلينا، فيجعلُ مَقصدنا الأسمى في حركاتِنا وسكناتنا رضا الله تعالى، فنحنُ نُعطي لنعالجَ أنفُسنا من الشحّ، ونبذلَ ابتغاَء ما عند الله من الدرجاتِ العُلى
اقرأ المزيدقال الابن التقي لأبيه الخليفة: (يا أبتي، ما يمنعك أن تمضي لما تريد من العدل، فو الله ما كنت أبالي ولو غلت بي وبك القدور في ذلك)، فقال الخليفة الراشد:
(يا بني، إنما أنا أروض الناس رياضة الصعب، إني لأريد أن أحيي الأمر من العدل، فأُأخره حتى أخرج الطمع من الدنيا، فينفروا من هذه ويسكنوا لهذه، إني أعالج أمرًا قد شب عليه الصغير وشاب عليه الكبير، ألا ترضى من أبيك أن يحيي في كل يومٍ سنة، ويميت في كل يومٍ بدعة؟) قال: بلى، هذا هو الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز.
كيف تدرّج عمر بن عبد العزيز في تغيير الأوضاع وإزالة الظلم؟
الإصلاح من داخل منظمة الحكم، والتدرج في التغيير هو ما سنتكلم عنه.
ولد عمر بن عبد العزيز عام (61هـ) في المدينة المنورة، وحفظ القرآن الكريم وهو صغير، وتربى على يد من تبقى من الصحابة الكرام، فهو تابعي جليل.
يعتبر عمر بن عبد العزيز أحد أئمة العلم في زمانه، قال عنه التابعون: (أتيناه لنعلمه فما برحنا حتى تعلمنا منه)، وقالوا: (ما كانت العلماء عند عمر إلا تلامذة).
عمه عبد الملك بن مروان خامس الخلفاء الأمويين، وكانت تعجبه نباهة ابن أخيه عمر، وكان يقربه من مجلسه ويقدمه على أبنائه، وزوجه ابنته فاطمة، وعيّنه على إمارة صغيرة بالقرب من حلب (دير سمعان)، فكان عمر يحرص على إرسال النصائح لعمه الخليفة.
توفي عبد الملك بن مروان سنة (86هـ) في دمشق، وتولى من بعده ابنه الوليد بن عبد الملك، فولى عمر على المدينة وعمره (25 سنة)، لكن عمر اشترط:
فوافق الخليفة، وفرح أهل المدينة بعمر فرحًا عظيمًا، فهم يعرفون سيرته لأنه نشأ بينهم، ومن قبل أن يأتيهم واليًا اشترط إقامة العدل، وفي المدينة صلى الظهر ثم اجتمع بـ (10) من أكبر فقهاء المدينة، وقال لهم:
(إني دعوتكم لأمر تؤجرون فيه، ونكون فيه أعوانًا على الحق، ما أريد أن أقطع أمرًا إلا برأيكم، أو رأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحدًا يتعدى أو يظلم أو بلغكم عن عامل من عمالي ظلمًا؛ فأحرج بالله على من بلغه ذلك إلا أبلغني).
عرف عن عمر حبه لآل بيت رسول الله ﷺ، وحرصه البالغ على تكريمهم وودهم، وقضاء ما يحتاجونه، تقول “فاطمة بنت علي” أنها دخلت على عمر بن عبد العزيز، فقال لها: (يا ابنة علي والله ما على ظهر الأرض أهل بيت أحب إليّ منكم، ولأنتم أحب إليّ من أهل بيتي)، تقول فاطمة: (لو بقي عمر بن عبد العزيز لنا ما احتجنا بعد أحد).
عام (91هـ): اتسعت ولاية عمر، فأصبح واليًا على أهل الحجاز كلها، ونشر العدل والأمن بين الناس، وأذاقهم حلاوة الرحمة وسكينة النفس، ونأى بنفسه عن الظلم والآثام، وتحدى الجبابرة الطغاة، وعلى رأسهم “الحجاج بن يوسف الثقفي“،
وكان يمقته مقتًا شديدًا بسبب تعسفه، وطلب من الخليفة ألا يقدم الحَجّاج إلى المدينة، حتى لو كان يقصد الحج، وذلك بسبب ظلم الحجاج الشديد، فما كان من الحجاج إلا أن وشى للخليفة على عمر بوشاية ظلم، لم يتأكد الخليفة من صحتها، فقام الخليفة بعزل عمر سنة (93هـ).
لكن الوليد بقي محافظًا على وده لعمر، فرغم عزله عن ولاية المدينة المنورة، إلا أنه قرّبه إليه في مجلس الحكم فجعله مستشارًا له، فكان عمر نعم المستشار، ونعم الناصح للوليد في أي أمر من الأمور.
عزم الوليد على خلع أخيه سليمان من ولاية الملك، وتوليه ابنه عبد الملك بن الوليد، وذلك على خلاف الاتفاق بين بني أمية (ولاية الخلافة للأخ الأكبر وليس للابن)، فوافق كثيرٌ من الأمراء وأشراف بني أمية على مراد الوليد، طوعًا أو كرهًا، لكن عمر رفض وامتنع، وقال لسليمان: في أعناقنا بيعة، فكيف أنكث هذه البيعة؟.
توفي الوليد بن عبد الملك سنة (96هـ) وبويع سليمان بالخلافة، فقرّب عمر بن عبد العزيز وعيّنه وزيرًا له، وقال له: (يا أبا حفص إنا قد وُلّينا هذا الأمر، ولم يكن لنا بتدبيره علم، فما رأيت من مصلحة العامة فأمرني به)،
فبدأ عمر ينصح سليمان بتنحية نواب الحجاج بن يوسف الثقفي، فعزلهم كلهم، وأخرج جميع من في السجون، وبذل الأعطيات في أهل العراق حتى استقر أمر العراق.
خرج سليمان وعمر إلى البوادي، فجاءت سحابة فيها برق وصواعق، ففزع منها سليمان ومن معه، فقال عمر: (إنما هذا صوت نعمته، فكيف لو سمعت صوت عذابه؟)،
فقال سليمان: هذه (100) ألف درهم تصدق بها، فقال عمر: (أَوَغير ذلك يا أمير المؤمنين؟) قال: (ما هو؟) قال: (قوم صحبوك في مظالم، فاسمع لهم)، فجلس سليمان يستمع لهم، وردّ المظالم إلى أهلها.
سنة (99هـ): حَجّ سليمان بن عبد الملك، فكان عدد الحجاج كثير، فقال سليمان لعمر: (ألا ترى هذا الخلق الذي لا يحصي عددهم إلا الله، فقال عمر: (يا أمير المؤمنين: هؤلاء رعيتك هذا اليوم، وهم خصومك غدًا عند الله)، فبكى سليمان بكاءًا شديدًا.
مرض سليمان مرضًا شديدًا، وأحسّ بدنو الأجل، فبدأ يفكر بمن يوصي للخلافة من بعده؟ فنظر إلى ولده “داود” وكان قائدًا للجيش وقد ابتعثه لفتح القسطنطينية، فتدخل أحد الوزراء الصالحين “رجاء بن حيوة”،
وأشار على الخليفة بما هو خيرٌ للإسلام والمسلمين، أن يولي عمر بن عبد العزيز الخلافة من بعده، لكن ربما لا يوافق أبناء عبد الملك بن مروان على ذلك، فاقترح عليه وزيره مخرجًا، أن يعين عمر خليفة على أن يخلفه يزيد بن عبد الملك في الخلافة، وهذا أثر البطانة الصالحة للحاكم الصالح.
كتب سليمان الكتاب وختمه وأغلقه، وجمع إخوته، وكل بني أمية، وأمر أن يبايعوا المسمى في الكتاب، ومن أبى أن يبايع يضرب عنقه، فبايعوه كلهم رجلًا رجلًا، وهم لا يعرفوا من المسمى، فلما انصرفوا جاء عمر إلى رجاء وقال: (أنشدك الله هل اسمي مذكور في هذا الكتاب؟ فأستعدي سليمان قبل موته)، فقال رجاء: والله لا أخبرك.
ثم مات سليمان، فجُمع الناس في مسجد دابق، وطلب منهم رجاء بن حيوة أن يبايعوا المسمى في الكتاب، ولم يكن قد أخبرهم بموت سليمان، فبايعه الناس ثلاث مرات، ثم أخبرهم أن سليمان قد مات، ثم قرأ الكتاب عليهم، فلما وصل إلى ذكر عمر تغيرت وجوه بني أمية،
فلما قرأ أن يزيد بعده تراجعت هذه الوجوه قليلًا، فقام هشام وقال: (والله لا أبايعه أبدًا)، فقال الوزير: (إذًا والله أضرب عنقك، قم أنت أولاً فبايعه)، فنهض هشام وبايعه خوفًا، ونهض الناس إلى عمر بن عبد العزيز، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
عندما سمع عمر وصية سليمان، ما استطاع القيام من مؤخرة المسجد، فحُمل إلى المنبر، وقام الناس ليبايعوه، فأراد أن يخطب فيهم، لكنه ما استطاع الوقوف، فخطب فيهم جالسًا فكان مما قال:
(يا أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي مني، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم ولأمركم من تريدون).
فصاح الشعب كلهم: قد اخترناك لأنفسنا وأمرنا، ثم قال: (من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم).
الخلاف مع الخوارج قديم منذ عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فأراد عمر أن ينهي هذا الخلاف، طلب أن يجتمع بقادتهم، فبصّرهم بخطئهم، وحاورهم فاستجابوا له، وأقام عليهم الحجج بالدليل القاطع والبرهان الساطع، إلا في مسألة توليه الخلافة، وتولية يزيد وليا للعهد.
طلبوا من فقالوا: (اخلع نفسك واخلع يزيد، فإن اختارك الناس بايعناك معهم)، فقال اتركوني أنظر؟ فرجع إلى بيته وفكر مليا ثم أجابهم في اليوم الثاني عن صدق قولهم، فقرر أن يُرتِّب الأمر لإعادة الشورى بين الناس، لكن الموت باغته قبل أن يصنع هذا الأمر.
توفي عمر بن عبد العزيز سنة (101هـ)، وذلك بعد لقائه بالخوارج بثلاثة أيام، ودفن في منطقة دير سمعان بالقرب من حلب.
توفي ولم يكن في سجونه كلها سجين واحد.
أما سبب وفاته فقد تضاربت الروايات حول موته: قيل أنه سُقي سُمًّا، ومن سقاه السُّم هم بنو أمية خوفًا من عزل نفسه، وعزل يزيد بعد لقائه بالخوارج.
وكان الذي سقاه السّم عبدٌ عنده، وقد سأله ما حملك على سقاي السّم؟
فقال العبد: (1000) دينار من الذهب، وأن أعتق من العبودية، فقال عمر هات الألف، فأخذها عمر ورماها في بيت مال المسلمين، وقال له: اذهب حيث لا يراك أحد، وختم حياته بالعفو والصفح، هكذا يكون الحكم الصحيح في دولة الإسلام.
يقول الدكتور طارق السويدان:
(الإصلاح من داخل الحكم أفضل من خارجه، والإصلاح من خارجه أفضل من الثورة، والثورة أفضل من الاستبداد).
وفي الختام: لا تنس مشاركة هذه المقالة مع الأصدقاء
كما يمكنكم الاستفادة والاطلاع على المزيد من المقالات:
نيلسون مانديلا وقوة التسامح و علي عزت بيجوفيتش والولاء للفكرة
و نظام الملك وأسس الدولة الناجحة
هو تابعي جليل فقد ولد عام (61هـ) في المدينة المنورة، وتربى على يد من تبقى من الصحابة الكرام.
عمه من والده، وأبو زوجته فاطمة بنت عبد الملك، وكانت تعجبه نباهة ابن أخيه عمر، وكان يقربه من مجلسه ويقدمه على أبنائه، وعينه على إمارة صغيرة بالقرب من حلب (دير سمعان).
توفي عبد الملك بن مروان سنة (86هـ) في دمشق، وتولى من بعده ابنه الوليد بن عبد الملك، فولى عمر على المدينة وعمره (25 سنة)،
السبب هو"الحجاج بن يوسف الثقفي"، فقدكان عمر يمقته مقتًا شديدًا بسبب تعسفه، وطلب من الخليفة ألا يقدم الحَجّاج إلى المدينة، حتى لو كان يقصد الحج، وذلك بسبب ظلم الحجاج الشديد، فما كان من الحجاج إلا أن وشى للخليفة على عمر بوشاية ظلم، لم يتأكد الخليفة من صحتها، فقام الخليفة بعزل عمر سنة (93هـ).
مرض سليمان مرضًا شديدًا، وأحسّ بدنو الأجل، فبدأ يفكر بمن يوصي للخلافة من بعده؟ فنظر إلى ولده "داود" وكان قائدًا للجيش وقد ابتعثه لفتح القسطنطينية، فتدخل أحد الوزراء الصالحين "رجاء بن حيوة"، وأشار على الخليفة بما هو خيرٌ للإسلام والمسلمين، أن يولي عمر بن عبد العزيز الخلافة من بعده، لكن ربما لا يوافق أبناء عبد الملك بن مروان على ذلك، فاقترح عليه وزيره مخرجًا، أن يعين عمر خليفة على أن يخلفه يزيد بن عبد الملك في الخلافة،
أراد عمر أن ينهي الخلاف، طلب أن يجتمع بقادتهم، فبصّرهم بخطئهم، وحاورهم فاستجابوا له، وأقام عليهم الحجج بالدليل القاطع والبرهان الساطع، إلا في مسألة توليه الخلافة، وتولية يزيد وليا للعهد، فاخلع نفسك واخلع يزيد، فإن اختارك الناس بايعناك معهم، فقال اتركوني أنظر؟ فرجع إلى بيته وفكر مليا ثم أجابهم في اليوم الثاني عن صدق قولهم، فقرر أن يُرتِّب الأمر لإعادة الشورى بين الناس، لكن الموت باغته قبل أن يصنع هذا الأمر.
قيل أنه سُقي سُمًّا، ومن سقاه السُّم هم بنو أمية خوفا من عزل نفسه وعزل يزيد بعد لقائه بالخوارج.
ومن سقاه السم عبدًا عنده، وقد سأله ما حملك على سقاي السم فقال العبد: (1000) دينار من الذهب، وأن أعتق من العبودية، فقال عمر هات الألف، فأخذها عمر ورماها في بيت مال المسلمين، وقال له اذهب حيث لا براك أحد، وختم حياته بالعفو والصفح،