غاندي والسلمية
لماذا تميل السلطات إلى العنف؟ إذا كان هناك متسع لاستيعاب الأمور، وخاصة إذا كان الطرف…
اقرأ المزيدالتاريخ لا يُخلّد الغارقين في اللذّات والشهوات، وإنما يخلّد أصحاب الفضل والإنجازات، أصحاب الآثار العظيمة والمواقف النبيلة والقيم الرفيعة، إنْ ذكرتْ سيّدات القصور قريبات الخلفاء والملوك، فلا بدّ من ذكر فاطمة بنت عبد الملك بن مروان.
فيها يقول الشاعر:
بنتُ الخليـفة والخليفة جَدُّهـا أختُ الخلائف والخليفة بعلُها
فَرِحتْ قوابلُهـا بهـا وتبـاشرتْ وكذاك كانوا في المَسرّة أهلُها
فاطمة بنت عبد الملك وحيدة أمّها، وإخوتها جميعًا كانوا من أبيها بلغ عددهم 16 ذكرًا و2 إناث، كان أبوها عبد الملك يحبّها حبًّا خاصًّا ويرعاها رعاية خاصّة، ودفع بها إلى العلماء والفقهاء فتعلّمت القرآن الكريم والحديث والشّعر والأدب والفقه والسّير، فغدت عالمة بالإضافة إلى الملك والجمال.
تقول الصحابية أم الدرداء رضي الله عنها عن عبد الملك: (ما زلتُ أتخيّل هذا الأمر فيك -تقصد الخلافة- مذ رأيتك)، قال: وكيف ذاك؟! قالت: (ما رأيت أعلم منك محدّثًا ولا أحسن منك مستمعًا).
قال الإمام الشّعبي: (ما جادلت أحدًا إلا وجدتُ لي عليه الفضل، إلا عبد الملك بن مروان، فإني ما ذكرته حديثًا إلا زادني فيه، ولا شعرًا إلا وزادني فيه).
يقول إبراهيم بن عدي رأيت عبد الملك بن مروان، وقد أتته أمور أربعة في ليلة فلم يتغيّر وجهه:
كان أديبًا يقول الأصمعي: أربعة لم يلحنوا في جدّ ولا هزل:
أخوها الوليد بن عبد الملك: صار خليفة وكان فقيهًا لكنه كان شديدًا جبارًا، ولمّا توفي خلفه أخوها الآخر سليمان بن عبد الملك: وكان فصيحًا مفوّهًا عادلًا، يحبُّ الغزو حريصًا على الدّين، كما أنه عيّن عمر بن عبد العزيز وزيرًا له ومستشارًا.
لمّا توفي عبد العزيز والد عمر -وكان واليًا على مصر-، طلب عبد الملك من عمر القدوم إلى دمشق، وهناك خطبته فاطمة بنت مروان لفاطمة بنت عبد الملك، فأرسل إليه عبد الملك يقول: (يا ابن أخي، قد زوجك أمير المؤمنين لابنته فاطمة)، فقال عمر: (وصلك الله يا أمير المؤمنين، لقد أجزلت وكفيت)، وعاشا حياة هانئة في الشام.
ولما صارت الخلافة إلى الوليد أعطى الولاية لـ”عمر بن عبد العزيز” على المدينة المنورة، فذهب إليها مع زوجته فاطمة وعمره 25 عامًا، فنشر العدل وأحبّه الناس وكان مؤمنًا تقيًا، ولكنه كان مترفًا يفوحُ طيبه لأميال، له مشية خيلاء يقال لها: (المشية العمرية).
كان الحجاج بن يوسف الثقفي ذو مكانة ومقرّبًا عند الخلفاء، لكنّ عمر سمع ببطشه وظلمه في العراق، فأرسل إلى الخليفة الوليد، أنه لا يريد استقبال الحجاج بن يوسف في المدينة في موسم الحج، فغضب الحجاج وما زال يحدث الوليد حتى عزل عمر بن عبد العزيز عن ولاية المدينة،
فخرج منها عمر يبكي، فسألته فاطمة عن ذلك، فقال: (أخشى أنْ أكون ممن أبْعَدَتِ المدينة)، لحديث رسول الله ﷺ إنَّ المدينة تُبعد الخبث عنها، فقالت له فاطمة: (لا تحزن إنّ الله معنا).
ثم إنّ الوليد أراد أن يعزل أخاه سليمان عن ولاية العهد، فاستقبل الأعيان يشاورهم في ذلك، فرفض عمر بن عبد العزيز ذلك وقال: (إنَّ لسليمان في أعناقنا بيعة)، وعاد فأخبر فاطمة فوافقت رأيه واستنكرت عمل الوليد، ثم إنّ الوليد استدعى عمر وحبسه في غرفة مغلقة لا ضوء فيها،
ومنع عنه الطعام والشراب، اضطربت فاطمة لفقد زوجها فجاءت تستحلف أخاها ولا يجيبها، ثم توسّطت عند زوجة أخيها “أم البنين”، فلان الوليد فذهبوا وأخرجوه وهو بحال يرثى لها.
هذا الموقف جعل لعمر مكانة خاصة عند سليمان لما تولى الخلافة، وذلك بعد أنْ توفي الوليد قبل أن يستطيع عزل أخيه، فجعله سليمان أحد وزرائه، بدأ عمر يضغط على سليمان حتى يعزل الحجاج بن يوسف الثقفي، ويخرج الناس الذين سجنهم وقد بلغ عددهم 80 ألفًا، وفعلًا استجاب سليمان لعمر وارتفعت بذلك مكانته بين الناس.
كان سليمان بن عبد الملك رجل دين، يروي وزيره العالم الجليل رجاء بن حيوة فيقول: لمّا كان يوم الجمعة لبس سليمان بن عبد الملك ثياباً خضراً من خزّ، ونظر في المرآة فقال: (أنا والله الملك الشاب)، فخرج إلى الصلاة يصلي مع الناس صلاة الجمعة، فلم يرجع حتى وعك وأصابته الحمى وحضرته الوفاة.
هنا جاء الإمام رجاء بن حيوة وأقنع سليمان أن يغيّر ولي العهد، بأن يجعل أحدهم قبل ابنه يزيد وكتب بذلك كتابًا، فلم توفي خرج رجاء إلى الناس وهم مجتمعون وأخذ منهم البيعة لمن اسمه في كتاب سليمان، والجميع يظن أنه يزيد بن سليمان، ثم ذهب إلى عمر بن عبد العزيز وكان في مؤخرة المسجد، فقال له: (السلام عليك يا أمير المؤمنين).
فوجئ عمر بالأمر وسقط أرضًا ثم حُمل فبايعه الناس وهو جالس، ولما فرغ من دفن سليمان جيء له بالمراكب الفخمة فأخرها وعاد على “بغلة” إلى منزله، رآه خادم له فقال: يا أمير المؤمنين كأنك مهتم؟!
قال عمر: (لمثل الأمر الذي نزل بي اهتممت، إنه ليس مِنْ أمّة محمد في مشرق ولا مغرب أحدٌ إلا له في قِبَلي حقّ، يحقُّ عليّ أداؤه إليه غير كاتب لي فيه)، ثم أمر بكل البسط والمراكب التي كانت للخليفة أن تكون في بيت مال المسلمين.
لما دخل منزله وأراد أن يأخذ قيلولة، جاءه ابنه عبد الملك، فقال: ماذا تريد أن تفعل يا أمير المؤمنين؟
قال عمر: أي بني أقيلُ تعبت، قال ابنه: تقيلُ ولا تردّ المظالم؟!
قال: بني إنّي قد سهرت البارحة في أمر عمّك سليمان، وانشغلت فيما ترى، فإذا صليت الظهر رددتُ المظالم، فقال ابنه: يا أمير المؤمنين، من لك أن تعيش إلى الظهر؟!
فتعجب وضمّه، وقال: (الحمد لله الذي أخرج من صُلبي من يعينني على ديني)، ثم خرج يرد المظالم وأوّلُ مظالمٍ بدأ بها: هي مظالم بني أمية على الناس.
جاءت فاطمة تبارك لزوجها عمر بالخلافة، فلم يقابلها بفرح وإنما خيّرها بين أمرين لا ثالث لهما قائلًا: (إما أن تكونين معي وليس لي وقت لك، أو تلحقي بأهلك)، فاختارته وبكت وأبكت جواريها -حبًا وتعلّقًا به-.
ثم قال: (إن أردتِ صحبتي؛ فردّي ما معك من مالٍ وحُليّ وجوهر إلى بيت مال المسلمين فإنه لهم، فإني لا أجتمع أنا وأنت والحليّ في بيت واحد)، ولما كانت خلافة أخيها يزيد أراد أن يعيدها لها فرفضت ذلك.
ثم نظر عمر في ملابسها وقال: (هذه ليست لك ردّيها إلى بيت مال المسلمين، فلا أدري أحلال هي أم حرام).
مرّت عليها أيام لا تجد فيها لحافًا تلتحف به من شدة برد دمشق، ومرت عليها أيام وأمعاؤها تضطرب من الجوع، فكانت تدعو وتقول: (ألا ليت بيننا وبين الخلافة بعد المشرقين، فوالله ما رأينا سرورًا مذ دخلت علينا الخلافة).
جاءها يومًا أحد الخدم يطلب طعامًا فأعطته عدسًا، فقال: كل يوم عدس؟! قالت: (يا بني هذا طعام مولاك أمير المؤمنين).
دخلت امرأة عليها فرأتها تلبس ثيابًا رثّة، فقالت لها: يا فاطمة المرأة تتزين لزوجها، فقالت فاطمة: المرأة تتزين لزوجها بما يحبّ أم بما لا يحبّ؟ قالت: بما يحبّ، قالت: فإنه يحبّ مني هذا.
دخل عليها زوجها يومًا فإذا هي تخيط ثوبها بيديها، فقال: (أتذكرين يوم خرجنا مع سليمان بن عبد الملك في مرج دابق في الغزو؟، ثم قال: نحن في ليالي دابق أنعم منا اليوم)، فقالت: (والله ما كنت على ذلك يومئذ أقدر منك اليوم)، فقال: (يا فاطمة إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم)، فبكت فاطمة وقالت: (اللهم أعذه من النار).
انشغل عمر عن فاطمة انشغالًا شديدًا بأعمال الخلافة، فكتبت إليه يومًا تذكره:
ألا يا أيّه الملك الذي قد سبا عقلي وهام به فؤادي
أراك وسعت كل الناس عدلًا وجُرت عليَّ من بين العباد
وأعطيت الرّعية كل فضل وما أعطيتني غير السُّهاد
عندها جاءها معتذرًا.
فيقول: عليك بشأنك دعيني بشأني، أقول: أرجو أنْ أتّعظ، فيقول: إني قد نظرت فوجدّتني قد وليت أمر هذه الأمة أسودها وأحمرها، ثم ذكرتُ الفقير والجائع والغريب والضائع والأسير المقهور وذو العيال وأشباه ذلك في أقاصي الأرض، فعلمتُ أنّ الله سائلني عنهم جميعًا، وأنّ رسول الله ﷺ سيحاجّني فيهم،
فخفتُ ألّا يقبل الله مني عذرًا، ولا تقوم لي مع رسول الله ﷺ حُجّة، فرحمتُ والله يا فاطمة نفسي رحمة دمعت لها عيني، وتوجّع لها فؤادي، وشهقت لها نفسي، وكلما ازددت لها ذكرًا ازددت منها خوفًا، فاتعظي إنْ شئتِ أو اتركي).
ملأ عمر الأرض عدلًا؛ حتى شقّ على الناس أن يجدوا من يأخذ الزكاة، وكان حكمه سنتين وخمسة أشهر، يقول مالك بن دينار العابد العظيم: (الناس يقولون مالك زاهد، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها).
يقول عمر بن عبد العزيز لوزيره رجاء بن حيوة: (يا رجاء إنّ لي نفسًا توّاقة، كلما وصلت إلى أمر تاقت إلى ما هو أعلى منه، وقد تاقت نفسي إلى فاطمة بنت عبد الملك فتزوّجتها، ثم تاقت نفسي إلى الإمارة فتولّيت المدينة، ثم تاقت نفسي إلى الخلافة فأدركتها، وقد تاقت نفسي اليوم إلى الجنة فأرجو أن أدركها).
اشتهى عمر يومًا العنب ولم يكن يملك ثمنه، فكان عند فاطمة شيء، فأرسلت إلى والي بعلبك فأرسل لها عنبًا، فلما رآه عمر سألها، فغضب، وقال: (أتعبتِ دوابّ المسلمين من أجل شهوة أمير المؤمنين؟!)، وأرسل إلى والي بعلبك يحذره ألا يعود لمثلها، ولم يأكل العنب.
في سيرة ابن الجوزي: أنّ محمد بن عبد الملك سأل أخته فاطمة، كيف بدأ مرض عمر الذي مات فيه؟
قالت: والله ما أراه مات إلا خوفًا من الله، كنت أسمعه يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} فكان يرددها طوال الليل حتى الصباح، فأمرت خادمًا أن يبقى عنده، ثم خرج قائلًا أمرني أن أخرج، فلما دخلت عليه بعدها وجدته قد مات.
هكذا كان عمر خليفة راشدًا، وهكذا كانت فاطمة التي تربّت على العزّ والخير، أيّ امرأة تستطيع أن تصبر على ما صبرت عليه من هذا الفقر والزهد، لولا إيمان عميق، وحبٌّ عميق لله ولرسوله، وحبٌّ عميق لزوجها ورضاءً بما كان يفعل.
فاطمة بنت عبد الملك وحيدة أمّها، وإخوتها جميعًا كانوا من أبيها بلغ عددهم 16 ذكرًا و2 إناث، كان أبوها عبد الملك يحبّها حبًّا خاصًّا ويرعاها رعاية خاصّة، ودفع بها إلى العلماء والفقهاء فتعلّمت القرآن الكريم والحديث والشّعر والأدب والفقه والسّير، فغدت عالمة بالإضافة إلى الملك والجمال.
تولى شؤون فاطمة رحمها الله بعد وفاة أبيها عبدالملك بن مروان بويع الوليد بن عبد الملك بولاية العهد أيام أبيه عبد الملك بن مروان، ثم أخذت له البيعة بالخلافة بعد وفاة والده سنة 86 هـ705م.
زوجه عمر بن عبد العزيز هي فاطمة بنت عبد الملك.
قال عمر بن عبدالعزيز لزوجته فاطمة بنت عبدالملك إما أن تختاري الذهب والجواهر والزُّمُرُّد ومتاع الدنيا، وإما أن تختاري عمر بن عبدالعزيز، فقالت والله لا أختار عليك أحدًا يا أمير المؤمنين.
بنتُ الخليـفة والخليفة جَدُّهـا أختُ الخلائف والخليفة بعلُها
فَرِحتْ قوابلُهـا بهـا وتبـاشرتْ وكذاك كانوا في المَسرّة أهلُها
وفي الختام: لا تنس مشاركة هذه المقالة مع الأصدقاء.
كما يمكنك الاستفادة والاطلاع على المزيد من المقالات: